خلال الأيام القليلة الماضية، عشية مؤتمر الدول المانحة، الذي انعقد في لندن يوم (4/2/2016)، بهدف جمع المساعدات للاجئين السوريين، ودعم الدول المستضيفة لهم، انخرطت وسائل إعلام محلية، في ما بدا أنه حملة إعلامية، كثّفت من خلالها تغطيتها لقضية اللجوء السوري إلى الأردن. لكن جزءا من هذه التغطية، لم يتمكن من تحقيق التوازن بين هدف مشروع، هو إيصال معاناة الأردن إلى العالم، وتحسين فرصه في تحصيل الدعم، من ناحية، والاشتراطات المهنية التي تضمن للجمهور محتوى إعلاميا دقيقا ومنصفا، من ناحية أخرى.
لقد اتّسمت التغطية الإعلامية خلال الأيام القليلة الماضية، بما اتُسمت به منذ بداية الأزمة السورية، عندما كادت تنحصر، في بعد وحيد، هو الكلفة المترتبة على هذا اللجوء، فتداولت وسائل إعلام، خلال الأسبوع الماضي، عناوين مثل "السوريون يستحوذون على فرص العمل بالمفرق"، "مواطنون يشكون انتظارهم ساعات للعلاج بسبب مزاحمتهم من السوريين"، "ثلث الأحداث في دور الرعاية سوريون"، "بلدية الخالدية تجد صعوبة في جمع نفايات 10 آلاف لاجئ سوري"، وبعض هذه العناوين، التي يمكن عدّها "تحريضية"، تصدّر صفحات أولى.
ركزت الحملة على تصوير اللاجئين محض عبء، وتهميش الجانب الإنساني في مأساتهم، ما يُنسي الجمهور حقيقة أنهم في النهاية "ضحايا"، ويحرمهم حقهم في التعاطف الإنساني، لكن الخلل في الأداء الإعلامي لم يتوقف هنا، بل طال محتوى التقارير المنشورة، إذ نجد فيها "استسهالا" في إطلاق الأحكام، والتعميمات، المنسوبة إلى مصادر غير مختصة، وتداولا لأرقام غير موثّقة، بعضها خاطئ. وهو ما يمكن له أن يجعل من هذه التغطية أرضا خصبة لترويج مقولات غير دقيقة، يمكن لها، كما سنرى لاحقا، أن تستخدم وقودا لخطاب كراهية ضد اللاجئين السوريين.
من الأمثلة على ذلك، تقرير نُشر في صحيفة "الغد" يوم (3/2/2016)، تحت عنوان "المفرق: اللاجئون السوريون يزيدون 30 ألف عن عدد المواطنين"، ونقلت فيه عن مواطن اسمه ياسين الحسبان، أن عدد سكان محافظة المفرق كان يبلغ، قبل الأزمة السورية 100 ألف، وقد رفعه اللجوء، إلى "أكثر من الضعف"، وأن اللاجئين السوريون يقومون بـ "مزاحمة" هؤلاء المواطنين على خدمات وبنى تحتية، ولم تقدم الحكومة، بحسب التقرير، أي دعم إضافي.
ثم نقلت الصحيفة، في التقرير نفسه عن رئيس بلدية المفرق، أحمد المشاقبة، أن عدد المواطنين في المحافظة يُقدّر بـ90 ألف مواطن، في حين يُقدّر عدد اللاجئين السوريين بـ120 ألف لاجئ. وهكذا خلص التقرير إلى النتيجة التي تصدّرت العنوان، ومفادها أن عدد اللاجئين السوريين يفوق المواطنين بـ30 ألفا.
تخالف الأرقام السابقة، بفارق شاسع، النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والمساكن 2015، التي أطلقتها دائرة الإحصاءات العامة في كانون الثاني (يناير) 2016، فوفق "الإحصاءات"، يبلغ عدد سكان محافظة المفرق من الأردنيين 314 ألف تقريبا، ويبلغ عدد السوريون 208 آلاف تقريبا.
تقصي هذه الأرقام، يطرح بقوة السؤال الآتي: ما الذي أهّل المواطن المذكور لأن يكون مصدرا موثوقا، بما يكفي، لأن تتبنى صحيفة تقديره الخاص لعدد سكان محافظة المفرق.
ويُطرح التساؤل ذاته عن رئيس البلدية، الذي اعتمد التقرير تقديره لعدد مواطني المحافظة واللاجئين السوريين فيها، وصدّره في العنوان بوصفه حقيقة، من دون أن نعرف السند الذي استمد منه رئيس البلدية هذا التقدير.
مثال آخر على توظيف أرقام غير دقيقة، كان في تقرير يتحدث عن ضغط اللاجئين السوريين، على الخدمات الصحية في محافظة إربد، إذ ينقل تصريحا لمدير صحة محافظة إربد، الدكتور حيدر العتوم، يتضمن أرقاما تمثل عدد سكان المحافظة، وعدد المستشفيات والمراكز الصحية فيها، إضافة إلى قائمة تفصيلية، بالخدمات المقدمة إليهم، تضمنت 9 أرقام.
لكن، خلف هذه الدقة الظاهرية، هناك مفاجأة، هي أن هذا التصريح، المكون من 320 كلمة، والمتضمن 12 رقما، منقول حرفيا، بأرقامه، من تقرير، كان نُشر يوم (27/1/2014) في صحيفة "الدستور"، ولم يتغير فيه إلا رقم واحد، هو عدد سكان محافظة إربد، الذي كان في التقرير الأصلي "مليون وربع"، وغًيّر في التقرير الحالي إلى مليون و700 ألف"، ما ينسجم مع نتائج التعداد السكاني الأخير، في حين أن الأرقام الـ11 المتبقية، تنتمي، مع النص الذي وُظّفت فيه، إلى ما قبل سنتين.
لا يقتصر الأمر هنا على أخطاء عابرة في الأرقام، هنا وهناك، بل يمتد ليكون نموذجا على "الاستسهال" الذي سبقت الإشارة إليه، الذي يطبع قسما كبيرا من التغطية الإعلامية لقضية اللجوء السوري إلى الأردن، وهو استسهال في التعامل مع المصادر، وتبنٍ لكل ما تقوله، من دون التحقق منه، وإطلاقه، من ثم، على شكل تعميمات، تُصدّر للجمهور بوصفها حقائق.
فإضافة إلى الأرقام غير الدقيقة، نجد أيضا أرقاما غير موثقة، بعضها منسوب إلى مصادر غير مختصة، منها مثلا، تصريحات رؤساء بلديات عن "استحواذ" اللاجئين السوريين على "3 آلاف فرصة عمل"، تمثل "80%" من فرص العمل المتاحة ضمن حدود بلدية الصالحية، في محافظة المفرق. والأمر ذاته بالنسبة لـ"40%" من فرص العمل المتاحة ضمن بلدية الزعتري، في المحافظة ذاتها.
فمن غير المعروف هنا، المصدر الذي استمد منه رؤساء البلديات هذه الأرقام، ولا الفترة الزمنية التي تمثّلها، ولا نوع فرص العمل المقصودة، ولا نسبة العمالة الأردنية المتضررة من مجمل العمالة التي فقدت أعمالها. إذ ليس هناك أي توثيق، يمكن أن يضفي أي مصداقية على هذه الأرقام.
ويمكن في سياق الإشارة إلى عدم الدقة في توثيق المعلومات، ضرب مثال آخر: فيوم (4/2/2016) نشرت صحيفة "الرأي" تقريرا بعنوان "شيوع الزواج غير الموثق بين اللاجئين السوريين بالرمثا"، نقلت فيه ما قالت إنه نتائج "دراسة" عن الآثار الاجتماعية للجوء السوري على لواء الرمثا، أعدّتها وزارة التنمية الاجتماعية، وكشفت، بحسب التقرير، عن شيوع الزواج المبكر، بين اللاجئين السوريين، والزواج غير الموثّق، ومشاركة اللاجئين المواطنين "حصتهم من المياه والكهرباء".
التقرير قال إن "الدراسة كشفت آثارا، منها أن اللاجئين السوريين في الرمثا يمارسون "اختلاطا بين الذكور والإناث على نحو يخالف الثقافة المجتمعية الرمثاوية، سواء كان ذلك في المقاهي أو في بهو المساكن الشعبية، ما أدى إلى بروز مظاهر الانحراف وتهديد الأمن المجتمعي"، إضافة إلى "خروج الفتيات للشوارع بالبجامات".
لقد كان ما سبق منسوبا إلى "دراسة" أعدتها وزارة التنمية الاجتماعية، وهذا، نظريا، كاف لإضفاء المصداقية على النتائج، لكن كان لافتا أن التقرير الذي عرض نتائج هذه "الدراسة" لم يتضمن أي معلومات عنها، فلم يشر إلى زمن إجرائها، وحجم العينة، ونوع المنهج العلمي الذي استخدمته، وهي معلومات ضرورية، ليس فقط لأن ذكرها أساسي للحكم على مصداقية مخرجاتها، ولكن لأن نتائج من قبيل أن اختلاط الذكور والإناث في مجتمع اللاجئين أدى إلى "بروز مظاهر الانحراف" و"خروج الفتيات إلى الشارع بـ البجامات"، لايمكن أن تُقبل من دون معرفة وسيلة القياس التي استُخدمت.
"أكيد" اتصل هاتفيا بالناطق الإعلامي لوزارة التنمية الاجتماعية، الدكتور فواز الرطروط، الذي كان صرّح لـ"الرأي" بخصوص هذه "الدراسة"، واستفسر منه عن المنهج الذي اعتُمد للوصول إلى هذه النتائج، فقال الرطروط إن النتائج السابقة هي خلاصة نقاش أجرته "التنمية" مع 80 رئيسا وعضوا لجمعيات خيرية في لواء الرمثا، ضمن (Focus Group)، تحدثوا فيها عن "آرائهم" و"انطباعاتهم" عن اللجوء السوري في مناطقهم، مستندين إلى "خبراتهم" في التعامل مع اللاجئين من خلال الجمعيات التي يعملون فيها. ولم يكن هناك، بحسبه، مسوح أو استبانات أو غيرها من وسائل الرصد العلمية.
إذن، ما عرضه التقرير بوصفه نتائج "دراسة" كان في الحقيقة "آراء" و"انطباعات"، شكّلت خلاصة جلسة نقاش، أجرتها وزارة التنمية الاجتماعية مع عاملين في جمعيات خيرية تعاملت مع لاجئين. لكن التقرير الذي وصف هذه الخلاصة بـ"الدراسة"، لم يوضح هذه النقطة، رغم أهميتها لوضع هذه النتائج ضمن حجمها الطبيعي.
في السياق نفسه، هناك مثال آخر يتعلق بخبر نشرته "الرأي" يوم (3/2/2016)، تحت عنوان "ثلث الأحداث الذكور في دور الرعاية سوريون". ووضعت له الصحيفة صورة تعبيرية على موقعها الإلكتروني، تصور مجموعة من الفتيان في حالة اشتباك، وأحدهم يقف في وضعية تربص، مخفيا سكينا خلف ظهره.
لقد صاغت الصحيفة هذا الخبر حرفيا كالتالي: "ثلث الأحداث الذكور الداخلين إلى دور رعاية وتأهيل الأحداث هم من السوريين بقضايا وصفها الناطق الإعلامي بالوزارة الدكتور فواز الرطروط بأنها دخيلة على المجتمع كالاغتصاب".
وكما هو واضح، فإن هذه العبارة تنطوي على تعميم، يجعل الأمر يبدو كما لو أن "جميع" الأحداث السوريين في هذه الدور دخلوها بهذا النوع من القضايا. وهو حكم يستدعي أن يكون هناك رقم يدعمه، خصوصا مع الصورة التعبيرية التي وضعتها الصحيفة مع الخبر. "أكيد" حاول الحصول على هذا الرقم من الناطق الإعلامي لوزارة التنمية، لكنه اعتذر بأن رقما مثل هذا يحتاج، بحسبه، من الوزارة جهدا كبيرا جدا لتوفيره. لكنه وعد بأنه سيزوّد "أكيد" به حال توفره.
إن التأكيد على توثيق المعلومات، والتحقق من دقتها، لا يعني بأي حال التشكيك بها، ولا في حقيقة راسخة، تتمثل بالعبء الهائل الذي تكبّده الأردن، وما يزال، جرّاء اللجوء السوري، لكن التوثيق ضروري، لضمان تحقق أحد أهم معايير الإعلام المهني، وهو فصل الحقائق عن الآراء والتكهنات، وتحقيق الدقة الضرورية، لأنه في غيابها، يمكن بسهولة ترويج مقولات زائفة، تستخدم وقودا لخطاب كراهية ضد اللاجئين السوريين.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني