التغطية الإعلامية للمطالب الحياتية للناس.. حُسن نوايا الصحافي لا يكفي

التغطية الإعلامية للمطالب الحياتية للناس.. حُسن نوايا الصحافي لا يكفي

  • 2015-08-16
  • 12

بعد أيام قليلة من إصدار وزارة التربية والتعليم قرارها دمج المدارس التي يقل عدد طلبتها عن 30 طالباً، وتوفير وسائل مواصلات لطلبتها، نقلت وسائل الإعلام اعتراضات مواطنين في بلدتي سحم والمنصورة، التابعتين للواء بني كنانة في إربد، على القرار، الذي سيترتب عليه دمج مدرستي البلدتين.

ورغم أن الأخبار صيغت بطريقة يُفهم منها أن الاعتراض على قرار الدمج يمثّل رأياً عاماً في البلدتين، إلا أنها لم تتضمن ما يثبت أنه كذلك فعلاً.

لقد نسب الخبر الذي نشرته "بترا" ونقلته عنها "الدستور" و"الرأيومواقع إخبارية، مطالبة الوزارة بالتراجع عن قرار الدمج إلى "أهالي بلدتي المنصورة وسحم". كما نسب خبر "الغد" المطلب ذاته إلى "فاعليات شعبية" في البلدتين. وفي الحالتين، لم يكن هناك توضيح لما يجعل القارئ يثق بأن الاعتراض على القرار يمثل فعلا رأياً عاماً في البلدتين، فلم يكن هناك توضيح للمقصود بـ"فاعليات شعبية"، ما طبيعتها؟ وممن تتكون؟ وكم عدد من تمثلهم؟ ولا لعدد الموقّعين على عريضتين ذكرت الأخبار أن مواطنين سلموها إلى مدير التربية، كما لم يُذكر عدد الناس الذين تواصل معهم الصحفيان اللذان كتبا الخبرين، ولا كُشفت هوياتهم، بل نُسبت هذه الاعتراضات جميعها إلى مصادر جماعية مبهمة.

ما سبق يثير السؤال الآتي: هل المادة المنشورة كافية لدى القارئ لمعرفة أن الاعتراض على قرار الدمج يمثل فعلا مطلباً جماعياً لأهالي البلدتين، وليس مجرد مطلب أفراد حصلوا على ميزة إيصال صوتهم إلى وسائل الإعلام؟ وهل هي من الشمول والوضوح بحيث تمكن القارئ من ترجيح وجهة النظر التي أراد المتحدثون إيصالها ووافق الصحافي على ذلك باعتبار الصحافة وسيلة إيصال لصوت الناس إلى صاحب القرار؟

إن الأخبار السابقة لم تقدم ما يدعم "شرعية" مطلب الناس التراجع عن قرار الدمج، فقد نقلت الأخبار أن المعترضين يحتجون بـ"بعد المسافة بين بيوتهم والمدارس الجديدة"، لكنها لم تذكر كم تبلغ هذه المسافة، ولا ما هي المشكلة إذا كانت الوزارة ستؤمن الطلبة بوسائل نقل. كما نقلت عنهم أن القرار "سيؤدي إلى نتائج تنعكس آثارها على النسيج الاجتماعي"، ولم يكن هنا أدنى معلومة توضّح كيف سؤثر قرار الدمج على النسيج الاجتماعي. إضافة إلى أن المعترضين طالبوا الوزارة بأن تأخذ في اعتبارها "الزيادة الكبيرة في أعداد السكان في شتى مناطق الللواء خاصة في ظل تزايد اللاجئين السوريين"، لكن من دون أن تُوضّح علاقة ذلك باعتراضهم على القرار الذي كان واضحا أنه سيُطبق فقط على المدارس التي يقلّ عدد طلبتها عن 30.

أهمية الإشارة إلى الاختلال في تغطية الحالة السابقة تكمن في أنها تمثل نموذجا للطريقة التي تتعاطى بها بعض التغطيات مع القضايا المطلبية للناس، التي لا تتضمن ما يدل على الحجم الحقيقي للمطالبين بأمر ما، ولا مساحة المتضررين من وضع ما، ولا توفر معلومات حقيقية عن حيثيات هذه المطالب والشكاوى، وهي معلومات من شأنها أن تؤكد مصداقيتها، وتدعم شرعيتها، بل تكتفي هذه الأخبار في العادة بعبارات إنشائية، لا تقول في الحقيقة شيئا محددا، فلا تخبر الجمهور بحقائق تجعلهم يدركون ما يدور حولهم، ويضغطون باتجاه التأثير على صانعي القرار.

ويمكن العثور على العديد من التغطيات التي تعاني من هذا الاختلال؛ منها على سبيل المثال خبر عن شكوى من "انتشار مواد غذائية منتهية الصلاحية" في أسواق لواء الأغوار الجنوبية، وفيه يقول "مواطنون" إنهم ابتاعوا بيضاً ولحوماً ومشتقات ألبان فاسدة وتفوح منها روائح. وقالوا إن "مخابز في اللواء لا تلتزم بشروط الصحة"، وإن هناك "محلات تبيع خبزا في حالة تعفن"، لكن الخبر لا يقول لنا كم عدد هؤلاء المواطنين الذين اشتكوا للصحفي، ولا نقل عنهم عدد المحلات التي باعت لهم هذه الأغذية الفاسدة، ولا المخابز غير الملتزمة بالمعايير الصحية، ليحكم القارئ على مصداقية العبارة التي أكّدت "انتشار" الأغذية الفاسدة. وفي الوقت ذاته، لم يكن في تصريح المسؤول الوارد في الخبر ما يؤكد أو ينفي هذا الادعاء.

خبر آخر يتحدث عن الأضرار التي تسببها المقالع (الكسّارات) في بلدة ماعين في محافظة مادبا، وينقل مطالبات بإغلاقها. فالخبر، الذي لم يحدد عدد هذه المقالع، ونسب الشكاوى إلى "عدد من سكان بلدة ماعين" من دون معلومة إضافية تخبر القارئ بحجم المتضررين، لم يقدم معلومات محددة في ما يتعلّق بالأضرار نفسها، فهو اكتفى بنقل رواية المصادر عن هذه الأضرار من دون أرقام تدلل عليها، أو حقائق تشرحها وتثبت صدقها، ومن ذلك على سبيل المثال أن أعمال التفجير في هذه الكسارات أحدثث تشققات في المباني السكنية، وأن الشاحنات المحملة بالرمل التي تسير بـ"سرعة زائدة" تسببت بـ"حوادث دهس متكررة"، وأنها دهست 8 مواطنين في المنطقة، وأن "بعض المقالع تقوم بالاعتداء على أراضي الدولة". ولكن الخبر لم يدعم أيا من هذه  "الادعاءات" بأي معلومة تدلل عليها، فلا هو ذكر أمثلة على مباني تسببت لها المقالع بتشققات، ولا أعطى أي معلومة عن حوادث الدهس الثمانية التي ارتكبتها الشاحنات، ولا حدد المقالع التي تعتدي على أراضي الدولة، ومواقع الأراضي التي اعتدت عليها.

عدا أن هذا النوع من التغطيات يخلّ بمعايير مهنية مثل "الوضوح" و"الدقة" و"الشمولية"، فإنه أيضا يخلّ بأحد الأدوار الأساسية التي تنهض بها وسائل الإعلام، وهو أن تكون صوت الناس، وحلقة وصل بينهم وصانع القرار، فتنقل إليه شكاواهم ومطالبهم، لكن هذا النقل لن يكون مؤثراً، وحافزاً على التحرك إلا إذا كان واضحاً، ومدعّماً بحقائق صلبة.