تغطية "التهرب التأميني" لدى الأطباء... الإعلام لم يستقص مواطن الخلل

تغطية "التهرب التأميني" لدى الأطباء... الإعلام لم يستقص مواطن الخلل

  • 12

في حزيران (يونيو) 2012، أطلقت مؤسسة الضمان الاجتماعي حملة إعلامية لمكافحة "التهرّب التأميني"، وهو مصطلح يعني تهرّب أصحاب العمل من إشراك العاملين في مؤسساتهم بالضمان الاجتماعي، أو إشراكهم، ولكن على غير أجورهم أو ساعات عملهم الحقيقية، وهو في الحالتين، انتهاك لحق عمّالي، يمارسه صاحب العمل، ليتجنب، أو ليقلل كلفة مساهمته المالية في اشتراك الضمان الاجتماعي، البالغ بحسب القانون 20.25% من أجر العامل، يدفع صاحب العمل 13.25 منها، في حين يتحمل العامل 7%.

وفق القانون، فإن الشمول بالضمان الاجتماعي ملزم لكل مؤسسة تستخدم عاملا فأكثر، وقد طبّقت المؤسسة ابتداء من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 خطة شمول إلزامي تدريجي في محافظات المملكة، انتهت في أيار (مايو) 2011.

العام 2014، توجّهت "الضمان" في خطابها الإعلامي إلى قطاعات محددة، قالت إنها تشهد تهربا تأمينيا واسعا، هي الأطباء في عياداتهم الخاصة، والمدارس الخاصة، والمطاعم والحلويات، وفي هذا الإطار نقلت الصحف في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، تصريحا للناطق الإعلامي، في مؤسسة الضمان، علّق فيه على نتائج الحملة الخاصة بالأطباء، قائلا إن ثلاثة أطباء فقط، من أصل 4500 عيادة تقريبا، (من بينها ألف عيادة أسنان)، استجابوا للحملة، وبادروا بإشراك العاملين لديهم، من خلال الاتصال بالنافذة الهاتفية لـ"الضمان".

التصريح الصادم الذي نقله خبر لـ"بترا"، وأخذته عنها بالنص "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" و"الغد"، لم يتضمن مع ذلك معلومة أساسية، هي عدد العيادات الملتزم أصحابها أصلا بإشراك مستخدميهم  بالضمان، ونسبة هذه العيادات من العدد الكلي للعيادات في المملكة، وهي المعلومة المفترض أنها تشكل العنصر الأساسي في أي تغطية لهذا التصريح، إذ هي تكشف  للجمهور حجم "التهرّب التأميني" في هذا القطاع، وتجعل للرقم (3 أطباء) معنى مفهوما. لكن الصحف كما سبقت الإشارة، نشرت نص خبر "بترا"، من دون أن تزوّد الجمهور بالمعلومة الناقصة.

تصريح "الضمان"  استثار نقابة الأطباء، فنشرت عقبه على موقعها الإلكتروني بيانا، طلبت فيه من مؤسسة الضمان "توخي الدقة عند الحديث عن المؤسسات والأطباء بشكل خاص"، وقالت في سياق تفنيدها لـ"دقة" تصريح الناطق الإعلامي، إنها قامت فعلا بإشراك موظفيها كافة بالضمان الاجتماعي، منذ نشأة  مؤسسة الضمان.

لكن بيان "الأطباء"، عندما انتقل من الحديث عن موظفي النقابة إلى سكرتيرات الأطباء في العيادات، استخدم لغة "عائمة"،  لم تقدم أي أرقام محددة، فقال إن النقابة عممت على الأطباء إشراك العاملين لديهم، وأن "عددا من الأطباء" قد استجاب للدعوة، مضيفا أن النقابة أجرت اتصالات مع الأطباء تبيّن بعدها أن "نسبة عالية" منهم قد استجابوا لهذه الدعوة.

وبذلك، كان هذا خبر ثان غطّى "التهرب التأميني" للأطباء من دون أن يحصل الجمهور على المعلومة الأساسية وهي حجم هذا التهرب، فقد أعادت صحف "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" نشر بيان "الأطباء" كما هو.

يوم 11 تشرين الثاني، حدث تطور درامي على القضية، عندما جمع برنامج "يحدث اليوم"[1] في التلفزيون الأردني، الناطق الإعلامي لـ"الضمان"، مع نقيب الأطباء، الدكتور هاشم أبو حسان، في اتصال هاتفي، لنقاش هذه القضية.

البرنامج استقبل أولا اتصال الناطق الإعلامي، الذي كرر تصريحه، بخصوص أن ثلاثة أطباء فقط استجابوا للحملة، ثم استدرك قائلا إن هذا لا يعني انه لم يكن هناك أطباء ملتزمين سابقا بإشراك مستخدميهم بالضمان. وهنا، سأله المذيع مباشرة : "ما هي تقديراتكم للعدد؟"، من دون أن يحدد المذيع إن كان يقصد عدد الملتزمين سابقا بالقانون، أم عدد العيادات، فأجاب الناطق أن العدد هو "أكثر من ثلاثة آلاف عيادة، وألف عيادة طبّ أسنان"، وهو يقصد، كما اتضح لاحقا، العدد التقديري للعيادات في المملكة.

المفاجأة، عندما سُلّم الحديث لنقيب الأطباء، فقد أخذ الرقم السابق، وتعامل معه، على أساس أنه عدد الملتزمين بإشراك الموظفين لديهم بالضمان، وعاتب بالتالي، الناطق الإعلامي على تصريحه الأول في الصحف، الذي أعطى، كما قال النقيب، إيحاء كما لو أن معظم  الأطباء في المملكة متهربين من إشراك مستخدميهم بالضمان، في حين أنه نفسه يقول الآن، والكلام ما زال للنقيب، إن عدد الملتزمين أكثر من 3500، وقال النقيب، في سياق تأكيدة اتساع رقعة الأطباء الملتزمين بالقانون، إن النقابة أجرت اتصالات بعينة عشوائية من 100 طبيب، واتضح أن 80 منهم ملتزمون، وقال معلقا على تصريحات "الضمان" إنه "كان أولى بمؤسسة الضمان إنها تحكي مع النقابة بدل الذهاب للصحافة".

انتهى هذا النقاش المشوش، وانتقل البرنامج إلى فقرة أخرى، من دون أن يُتاح للناطق الإعلامي أن يصحح اللبس الذي حدث. وهنا أيضا، لم يحصل الجمهور على رقم محدد لحجم التهرب التأميني لدى الأطباء، لا من الناطق الإعلامي، ولا من النقيب.

في اليوم التالي، نشرت الصحف "نفيا" من مؤسسة الضمان لما قاله نقيب الأطباء، من أن هناك 3500 طبيب ملتزمين بإشراك  مستخدميهم بالضمان. وتكشف مطابقة نصوص الأخبار أنها منقولة عن نص واحد، هو البيان الصادر عن "الضمان"، ونشرته مواقع إلكترونية قبل يوم من نشر الصحف له.  "الدستور" نشرت البيان ذاته،  في حين نشرت "الرأي" والموقع الإلكتروني لـ"العرب اليوم" تغطية "بترا" للبيان، التي اكتفت بنشر النفي، وحذفت الإشارة إلى سببه، وهو اللبس الذي حدث في البرنامج التلفزيوني.  أما "السبيل" و"الغد" فقد نشرتا أجزاء أوسع من البيان، مع تصرف في صياغة وترتيب بعض الفقرات، وأيضا مع تصرف في اختيار أجزاء بيانات سابقة أُلصقت بالخبر. وفي المحصلة لهذا كله، كان لدينا تغطية صحفية ثالثة للتهرب التأميني في قطاع الأطباء (إضافة إلى التغطية التلفزيونية)، لم تذكر هي أيضا المعلومة الأهم، وهي حجم هذا التهرب، إذ ذُكر في هذا الخبر أن "غالبية" العيادات المقدرة بـ4500 عيادة غير مسجلة بالضمان.

كان على الجمهور أن ينتظر 41 يوما، كي يحصل على أرقام دقيقة، تكشف حجم تهرب الأطباء من إشراك العاملين لديهم بالضمان الاجتماعي، عندما نشرت "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" و"الغد"، تغطية لورشة تدريبية عقدتها "الضمان" للصحفيين، وكشفت فيها أنه من بين 4500 عيادة في المملكة، هناك 3577 عيادة، عاملوها غير مشمولين بالضمان الاجتماعي، أي بنسبة 79.5%. ووفق الأرقام أيضا، فإنه من بين 1470 عيادة مسجلة في "الضمان"، فإن هناك 923 عيادة، أبلغت "الضمان" أن لا مستخدمين لديها. وبذلك، فإنه في المحصلة النهائية، فإن 20.5% من العيادات في المملكة فقط، هي المشمولة بالضمان الاجتماعي.

لقد حصل الجمهور أخيرا على المعلومة الأساس وهي حجم تهرب الأطباء، لكن عدّة أسئلة ما زالت معلقة، أولها، أنه بعد أربعة أشهر، هل استجاب غير الثلاثة أطباء الذين أٌعلن عنهم سابقا؟  وهل انخفضت بأي شكل نسبة الأطباء المتهربين من إشراك عامليهم في الضمان؟ وما هي نسبة هذا الانخفاض؟ وجميعها أسئلة لم يقدم الإعلام لجمهوره إجاباتها.

أما السؤال الأهم، فهو، بعد أكثر من ثلاث سنوات على نفاذ الإلزامية الشاملة للضمان الاجتماعي، فإن الإعلام لم يستقص ما يمكن أن يكون مواطن الخلل التي سمحت بهذه النسبة من التهرب التأميني في قطاع الأطباء، وهو أمر ينطبق بحسب بيانات مؤسسة الضمان على قطاعات أخرى، فنسبة التهرب في قطاع المطاعم والحلويات هي 70%، ورغم أنه لا رقم محددا للتهرب في قطاع المدارس الخاصة، إلا أن مؤسسة الضمان تؤكد أن هناك مشكلة حقيقية في هذا القطاع، ولهذا ضمّته إلى القطاعات التي توجهت إليها بحملات إعلامية خاصة.

وتأكيدا على ما سبق، يشير تقرير "الحماية الاجتماعية في الأردن"، الذي أصدره مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، نهاية العام 2014، إلى أن نسبة العاملين المحرومين من الحماية الاجتماعية، وفق أرقام مؤسسة الضمان الاجتماعي، 34% من إجمالي المشتغلين في المملكة. ويلفت التقرير إلى أن النسبة، وفق أرقام وزارة التخطيط، أعلى من ذلك، إذ تبلغ 44%.

في إطار التغطية الإعلامية لجهود مؤسسة الضمان الاجتماعي لمكافحة التهرب التأميني، نُشرت أخبار عن توقيع المؤسسة اتفاقيات ربط إلكتروني بينها وجهات حكومية، منها أمانة عمان الكبرى، وإدارة ترخيص السواقين والمركبات، ووزارة العمل، وغيرها، لكن المتابع لتغطية جهود مكافحة التهرب التأميني، خلال السنتين الأخيرتين، يجد أنها، وإضافة إلى أنها تكاد تقتصر على البيانات الصحفية الصادرة عن مؤسسة الضمان الاجتماعي، تتضمن تركيزا إعلاميا كبيرا على جانب جهود "التوعية" التي تقوم بها المؤسسة في أوساط العاملين، من محاضرات، ونشرات مطبوعة، وخدمة هاتفية مجانية لاستقبال الاستفسارات والشكاوى، في حين أن الإعلام  لم يستقص بشكل حقيقي، جانبين أساسين من جوانب مكافحة هذه الظاهرة، أولهما: كفاءة جهازي التفتيش في مؤسسة الضمان الاجتماعي، ووزارة العمل، ومنها على سبيل المثال، عدد هؤلاء المفتشين، وتناسبه مع عدد المنشآت المشغلة لعمال في المملكة، والثاني: الجهود المبذولة لبناء قواعد بيانات لقطاعات العمل المختلفة، تمكّن "الضمان الاجتماعي" من اكتشاف وملاحقة المتهربين من تأمين عمّالهم.

ففي التغطيات، لن نجد في الغالب أكثر من إشارات عابرة إلى هذين الجانبين، بالأخص، الشكوى من عدم وجود قواعد بيانات في قطاعات العمل غير المنظمة، لكننا نعرف من الأخبار، أن هذه الشكوى تنسحب حتى على قطاعات منظمة، ففي قضية التهرب التأميني في قطاع الأطباء، تطلب مؤسسة الضمان الاجتماعي من نقابة الأطباء "التعاون" معها، وتزويدها بقاعدة بيانات العيادات، كي تتمكن المؤسسة من التواصل مع الأطباء أصحابها. وهنا، لم يتابع الإعلام هذه القضية، ليعرف إن كانت نقابة الأطباء قد "تعاونت" مع المؤسسة، وزوّدتها بهذه البيانات أم لا.

أهمية أن يذهب الإعلام أبعد في استقصاء جوانب أخرى من جهود مكافحة التهرب التأميني، هو أن جانب"توعية" العمال بحقهم في الحماية الاجتماعية وتحفيزهم على المطالبة به، وإن كان أحد الأدوات المهمة في مكافحة التهرب التأميني، إلا ان فعاليته تحدّ منها حقيقة أن العمال في هذه القضية هم الحلقة الأضعف، فوفق تصريح للناطق الإعلامي لـ"الضمان الاجتماعي" فإن "بعض أصحاب العمل يسرّحون العاملين لديهم إذا طالبوا بإشراكهم بالضمان الاجتماعي".

[1] يبدأ نقاش القضية في الدقيقة 27 إلى 35.