بعد شهر من تناقل وسائل الإعلام خبر انسكاب حديد منصهر على عمال في مصنع للحديد في الزرقاء، أدى إلى "تفحّم" عاملين، وإصابة خمسة آخرين، فإن أحدا باستثناء القريبين من الحدث، لا يعرف إلى الآن أسماء القتلى والمصابين، ولا أعمارهم وجنسياتهم، أو العائلات التي جاؤوا منها، وتركوها خلفهم. ولا أحد يعرف أيضا مدى خطورة إصابات من لم يموتوا، والتطورات التي طرأت على حالتهم.
في الخبر السابق، الذي نشرته وسائل الإعلام يوم 20 أيلول (سبتمبر) الماضي، لم يكن الضحايا أشخاصا من لحم ودم وهوية، بل كانوا مجرد أرقام، في أخبار مقتضبة، لا تتجاوز في العادة الـ70 أو 80 كلمة، مثلهم مثل الأغلبية الساحقة من الضحايا في أخبار الحوادث التي تغطيها وسائل الإعلام. مثل الزوجين اللذين اختنقا أثناء نومهما بغاز مدفأة في منزلهما في المفرق، والطفلة التي دهستها سيارة في الطفيلة، وفر السائق تاركا إياها تنزف حتى الموت، والعامل الوافد الذي مات في انهيار جدار استنادي في الزرقاء، والمراهقة التي سقطت من الطابق الرابع في منزلها في إربد، والخادمة الفلبينية التي سقطت أيضا من الطابق الرابع في منزل مخدوميها في عمان، والشاب الذي لقي مصرعه في حادث دهس بعد ساعات قليلة من وفاة عمته بحادث دهس في الشارع نفسه في الرمثا، والفتى الذي قتل بصعقة كهربائية أثناء قيامه بأعمال صيانة في منزل ذويه في عجلون.
وما سبق يمثل واحدا فقط من اختلالات تغطية الحوادث في الإعلام، فهناك أيضا النقص الجوهري في المعلومات اللازمة لبناء خبر أولي، إضافة إلى أن المتابعة اللاحقة، هي شبه منعدمة.
يرصد هذا التقرير، نموذجاً على هذه التغطية، يشمل الحوادث التي نشرتها صحف "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" و"الغد"، يوم 1 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، ويتتبع تغطية الحوادث نفسها في المواقع الإلكترونية.
نشرت الصحف الأربع 32 خبراً، غطّت 18 حادثا. من بينها 6 حوادث غُطيت بأخبار أصيلة، في حين غُطيت 12 حادثة بنقل حرفي لبيانات "الدفاع المدني" أو "الأمن العام"، إمّا من هذه البيانات مباشرة، أو بوساطة "بترا" التي تغطي الحوادث بالبيانات. ومعلوم أن هذه البيانات الرسمية بالغة الاقتضاب ووظيفية، إذ تنحصر مهمتها بوصف الحادثة، و"تعداد" الضحايا، وذكر الإجراءات الروتينية التي تتعامل بها هذه الأجهزة مع الحادثة في الموقع. والمفارقة أن 5 من الأخبار الـ6 الأصيلة صيغت على طريقة هذه البيانات ذاتها، ذلك أنها اكتفت بتصريحات مختصرة جدا للجهة الرسمية المختصة، ولم تستقص الحادثة من أطرافها المختلفة.
هذا النمط من العمل الصحفي، جعل جميع هذه التغطيات تقريباً تشترك في أنها اشتملت على نقص جوهري في المعلومات اللازمة لبناء خبر أولي. وهو نقص عمّقه أنها جميعها، باستثناء حادثة واحدة فقط، لم تحظ بأي متابعة تعوّض هذا النقص.
وحتى الحادثة الوحيدة، في هذا الرصد، التي توبعت، فإنها متابعة لم تعوّض هي أيضا النقص. والحادثة هي غرق طفل في الطفيلة، إذ اكتفى الخبر الأولي، الذي جاء في أقل من 100 كلمة، بالقول إن طفلا في الخامسة غرق في بركة زراعية في لواء بصيرا بمحافظة الطفيلة. من دون أن يجيب على أسئلة أساسية من مثل: أين تقع البركة الزراعية بالتحديد؟ وماذا كان الطفل يفعل في ذلك المكان؟ وأين كان ذووه لحظة الحادثة؟ وما هي الفترة الفاصلة بين غرقه ومحاولة إنقاذه. وسائل إعلام بعد يوم من الحادثة نشرت، مع اسم وصورة الطفل، خبر تبرع عائلته بقرنيتيه. وكان هذا كل ما ذكره الخبر المكون من 60 كلمة، وتناقلته الوسائل في نص موحد.
في ما تبقى من الحوادث، لم يكن هناك حدّ أدنى من المعلومات التي تكفل فهم ما حصل، ففي حادثة دهس طفل في منطقة المشارع في الغور الشمالي، وباستثناء خبر "الغد"[1]، الذي ذكر أن الطفل دُهس "بعد خروجه من مدرسته"، فإن الوسائل الأخرى اكتفت بالقول إن طفلا دُهس "أمام مدرسة". ولم تذكر أي وسيلة، بما فيها "الغد" يوم وساعة الوفاة، ولا ذُكر اسم المدرسة، ولا ذُكرت أي معلومة عن ملابسات حادث الدهس، أو إسعاف الطفل.
وفي خبر موضوعه القبض على شخص مطلوب بتسع أحكام قضائية، يُذكر أن "البحث الجنائي" تمكن من القبض عليه في كمين، بعد أن استطاع هذا المطلوب الفرار طوال عامين. لكن الخبر ذاته، يذكر في بعض الوسائل، أن هذا الشخص يعمل سائقا لدى أحد نواب محافظة الكرك. وفي وسائل أخرى، يُذكر أنه يعمل مديراً لمكتب هذا النائب، من دون أن يفسّر أحد كيف لشخص يعمل لدى شخصية عامة، معروفة العنوان، أن يتمكن من الفرار عامين من تسع أحكام قضائية. إضافة إلى أن أي وسيلة لم تذكر أي معلومة عن هذه القضايا، ولا ذكرت اسم النائب الذي يعمل لديه هذا الشخص. إضافة إلى أن "الرأي" التي نشرت في الخبر المنشور على الموقع الإلكتروني في اليوم السابق أن المطلوب يعمل سائقا لدى نائب، حذفت من النسخة الورقية[2] هذه المعلومة، وذكرت أنه يعمل "سائقا في محافظة الكرك".
وفي بعض الأخبار كان القارئ يحتاج إلى تركيب أجزاء القصة من التغطيات المختلفة. مثلا، في خبر وفاة شاب في الكرك بعيار ناري، يذكر خبر "الرأي"، في نسختها الورقية[3]، أن فتى في السابعة عشرة من عمره، توفي في الكرك بعيار ناري، عندما كان يقوم "بتنظيف قطعة سلاح"، لكن الخبر لا يذكر أين وقعت الحادثة بالتحديد، ولا وقتها، ولا يذكر علاقة الفتى بـ"قطعة السلاح" الذي كان ينظفه، ولا نوع هذا السلاح. لكن خبر "الغد" يذكر أن الحادثة وقعت في منزل ذوي الفتى، وأن السلاح هو مسدس، لكنه لا يذكر المعلومة المتعلقة بتنظيف السلاح. والمفارقة أن الخبر الذي نشرته "الرأي" على موقعها الإلكتروني قبل يوم من نشره في النسخة الورقية، ذكر أن قطعة السلاح "تخص" الفتى، لكن هذه المعلومة حُذفت من النسخة الورقية[4]، من دون أن يكون مفهوما سبب الحذف. ومن دون متابعة لاحقة للحادثة تستقصي لماذا يملك "طفل" سلاحا. إضافة إلى ذلك، فإن جميع الوسائل أغفلت تحديد هوية الفتى، في حين انفرد "عمون" بذكر اسمه.
وفي خبر إخماد حريق في محطة وقود في إربد، تذكر "الدستور" في خبرها المكون من 50 كلمة أن حريقا شبّ وأُخمد في المحطة، من دون ذكر سببه، في حين تذكر الصحف الأخرى أن السبب هو تماس كهربائي، لكن من دون أي معلومات إضافية.
التغطية القاصرة تعيق المراقبة والمساءلة
أهمية التغطية الوافية للحوادث، ومتابعتها تنبع أساسا من التزام الإعلام أمام جمهوره بكشف الاختلالات، وتحديد الجهات المسؤولة عنها، ومراقبة أداء هذه الجهات في معالجة هذه الاختلالات. وواضح أن قصور هذه التغطية يعيق نهوض الإعلام بهذا الالتزام.
وأبرز مثالين على ذلك هما خبرا متابعة حادثة انسكاب الحديد المصهور، السابقة الذكر، وحادثة انفجار سخان ماء (كيزر) في مادبا، التي وقعت يوم 27 أيلول الماضي، واللذان نُشرا في اليوم الذي يرصده هذا التقرير.
في الخبر الأول، تداولت الصحف والمواقع الإلكترونية تغطية "بترا" التي نقلت عن مدير مديرية صحة الزرقاء، تركي الخرابشة، إغلاق المصنع بسبب "عدم توفر وسائل الوقاية الشخصية والمهنية للعاملين". لكن الخبر صيغ بطريقة توحي بأن قرار الإغلاق هو نتيجة "جولات التفتيش اليومية" التي تنفذها المديرية على المؤسسات المختلفة. والحقيقة هي أن حادثة انسكاب الحديد المصهور، كانت هي ما كشف إخلال المصنع بشروط السلامة المهنية. كما كشفت أيضا حقيقة انفردت "الغد" بإضافتها إلى خبر "بترا" الذي نشرته، وهي أن المصنع حاصل على موافقة الجهات المختصة على الموقع فقط، ولم يحصل [بعد] على موافقة بالتشغيل والإنتاج.
تغطية الحادثة السابقة في جميع الوسائل لم تجب على سؤال مهم هو: متى بدأ هذا المصنع يزاول نشاطه الخطر وغير المرخص؟ والإجابة مهمة لأن معرفة الفترة الزمنية الفاصلة بين بدء المصنع لنشاطه والحادثة التي أدت إلى قرار إغلاقه، يساعد الجمهور على الحكم على فعالية أداء الجهات الرقابية، وهي جهات لم تحدد التغطيات إلا واحدة منها، هي مديرية الصحة، في حين أخرجت الجهات الأخرى، ضمنا، من دائرة المسؤولية والمساءلة.
الخبر الثاني، هو التصريح الصادم لمدير شرطة مادبا، العميد محمد المعايطة، الذي قال فيه إن انفجار سخان الماء (كيزر)، الذي كان قد وقع قبلها بأيام في منزل مواطن في المدينة، وتسبب بأضرار مادية كبيرة، سببه "خلل مصنعي". ووفق المعايطة فإن "الفحوصات المخبرية التي أجريت على السخان أثبتت أن هناك خطأ مصنعيا في هذه الماركة التجارية بالذات". وأضاف أن انفجارا مشابها وقع قبلها بثلاثة أسابيع، في منطقة الفيصلية في مادبا، كان "من ذات الماركة التجارية".
في المقابل، نقل الخبر السابق عن مدير مؤسسة المواصفات والمقاييس، حيدر الزبن، أن المؤسسة أرسلت فريقا من المهندسين إلى موقع الانفجار لإجراء الفحوصات الفنية، و"إذا تبين أن الماركة التجارية للكيزر الذي انفجر في منطقة الفيصلية (...) من ذات الماركة التجارية للانفجار اللاحق فسيتم الكشف عن كافة الكيزرات التي تعود للشركة المصنعة".
لقد انفردت "الرأي" بهذا الخبر، وكان لافتا، أن قضية خطيرة مثل هذه لم تحظ بأي متابعة لاحقة، من أي وسيلة إعلام. بل إن هذا الخبر، على إثارته لم تتداوله المواقع كما تفعل في العادة مع الأخبار المثيرة، فلم يمكن رصد أكثر من ست مواقع إلكترونية نشرته، حذفه واحد منها، وهو موقع "الوكيل"[5] في ما بعد.
ولم يكن انعدام المتابعة هو الاختلال الوحيد في هذه القضية، هناك أيضا، تحديد الجهة المسؤولة. فقد حدد الخبر مؤسسة المواصفات والمقاييس، بوصفها الجهة صاحبة المسؤولية، وهي جهة قالت إنها ستجري فحوصاتها. لكن هذا تضارب مع جهة أخرى هي مديرية شرطة المدينة، التي حسمت على لسان مديرها سبب الانفجار، بناء على ما قال إنه "فحوصات مخبرية" أثبتت ذلك، من دون أن يحدد الجهة الي أجرت هذه الفحوصات. ورغم أن الخبر أورد هذا الحسم في العنوان، لكنه مع ذلك لم يذكر اسم الماركة التجارية، كي يأخذ الناس حذرهم، على الأقل حتى تظهر نتيجة فحوصات المؤسسة. وهكذا فإنه بعد 20 يوما من هذه الإثارة المتضاربة والمرتبكة، فإن الإعلام لم يتابعها مع الجهات المختصة.
لقد كان واضحا في ما سبق أن تغطية الحوادث في هذا الرصد أخلّت بمعايير مهنية أبرزها "الدقة" و"الوضوح"، إضافة إلى الإخلال بأحد معايير "مصداقية وسائل الإعلام"، المتمثل بالمتابعة. وقد أدت هذه الاختلالات إلى قصور في التغطية، ينتهك حق الجمهور في المعرفة والمساءلة.
[1] "الغد"، 1/10/2015، ص 11. لم يمكن العثور على الخبر في الموقع الإلكتروني للصحيفة.
[2] "الرأي"، 1/10/2015، ص 6.
[3] المصدر السابق.
[4] يوم 2/10/2015 نشرت الصحيفة على الموقع الإلكتروني خبرا آخر مطابقا للنسخة الورقية (الرابط)، وهكذا أصبح هناك نسختان من الخبر على الموقع.
[5] نسخة مخبأة من غوغل.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني