الواقع الافتراضي والأخلاقيات الصحافية

الواقع الافتراضي والأخلاقيات الصحافية

  • 2017-10-18
  • 12

أكيد - ترجمة آية الخوالدة

تخيل أنك تستطيع تسلق ناطحة سحاب، أو الركض إلى جانب الثيران في اسبانيا أو المشي على سطح كوكب بلوتو، كل ذلك أصبح ممكناً من خلال أداة جديدة تستخدمها الوسائل الإعلامية في نقلها المشاهد نحو مغامرة في الواقع الافتراضي وتقنية الفيديو 360 درجة.

ويعرف الواقع الافتراضي بأنه تقنية حاسوبية تتضمن محاكاة بيئة حقيقية أو ثلاثية الأبعاد تعمل على نقل الوعي الإنساني إلى تلك البيئة ليشعر بأنه يعيش فيها، وقد تسمح له أحيانا بالتفاعل معها، وذلك من خلال الصور والفيديوهات المصورة بتقنية 360 درجة.

تقول مديرة قسم القصص الإخبارية في صحيفة النيويورك تايمز غراهام روبرتس: "هدف الصحافة المنتجة بهذه الأدوات الجديدة، هو الهدف الأصلي للمواد الصحافية، أي نقل القراء إلى القصة، لكن مع تجربة التايمز وغيرها من المطبوعات في تعاملها مع الواقع الافتراضي ونقل تجارب شديدة الحساسية مثل نقل المشاهد إلى وسط منطقة حرب أو زنزانة سجين في الحبس الانفرادي، واجهت التايمز اعتبارات أخلاقية جديدة، منها كيفية إنتاج مثل هذه القصص وطريقة تلقي الجماهير لهذه التجارب وتذكرها.

وتذكر روبرتس شكوى قدمها المحرر الإداري السابق في صحيفة الواشنطن بوست روبرت كايزر، حول قصة أنتجتها صحيفة النيويورك تايمز من خلال الواقع الافتراضي في مخيمات للاجئين، قدمت من خلالها معاناة الأطفال المهجرين من بلادهم، ولفت فيها أن التجربة بنيت على حيل وخداع من قبل المصورين ولم تكن حيادية وموضوعية.

وتعتبر القصص الإخبارية المنتجة عبر الواقع الافتراضي أكثر تعقيداً من الناحية الأخلاقية، حيث تلقى الفيلم "المهجرون" الذي أعدته صحيفة التايمز عام 2015 انتقادات كثيرة، والذي يدور حول حياة ثلاثة أطفال لاجئين من سوريا وأوكرانيا والصومال، وفي إحدى المشاهد يظهر أحدهم في جولة على متن دراجته الهوائية في شارع مشمس، كلحظة فرح في حياة اللاجئين الصعبة، وهي اللحظة التي اعتبرها الناقدون مصطنعة، بسبب الكاميرا الصغيرة التي استغرقت وقتاً طويلا لتركيبها على الدراجة، فالأولى أن توثق الكاميرا حياة الأخرين دون أن تؤثر عليها او تتدخل بها، فمن الطبيعي أن يقود الطفل دراجته يوميا دون أن يكون عليها كاميرا.

هذا وقد بدأت العديد من الوسائل الإعلامية في العامين الماضيين تجريب الواقع الافتراضي ورواية القصص الإخبارية بهذه التقنية، في الوقت الذي يستمر فيه النقاش حول رسم خطوط التعامل مع الوسيلة الجديدة، حيث شبهت روبرتس صعود صحافة الواقع الافتراضي بالفترة الزمنية التي شهدت اختراعات الأفلام ودور السينما، التكنولوجيا موجودة لكننا لا نستطيع إيجاد القواعد والأسس الصحيحة للتعامل معها.

وفي الوقت نفسه، لم توفر جمعية الصحفيين المحترفين أية مبادئ توجيهية في التعامل مع الواقع الافتراضي، رغم توفيرها مدونة أخلاقية عمومية. ويوضح أندرو سيمان، رئيس لجنة الأخلاقيات في الجمعية "نحن نقاوم وضع معايير مختلفة لوسائط الإعلام المختلفة، حيث يجب أن تكون المعايير المطبقة على المطبوعات والاذاعة والتلفزيون نفسها بغض النظر عن طبيعة الوسيط".

 ولكن كيف تنطبق مبادئ رواية القصص الإخبارية بشكل دقيق وموضوعي، حينما لا تكتفي الكاميرا بمجرد تصوير الحدث، وانما تستغل الإدراك الحسي لدى البشر لنقل الجمهور مباشرة الى قلب المشهد؟.

وما هي خيارات التحرير والتعديل في مثل هذا السياق؟ وكيف يتم التصوير بدرجة 360 من دون التقاط الصحفي ومعداته في الوسط، وهل تصب الجهود المبذولة لإزالتها في نقل الحقيقة كما هي؟، وكيف توثر القصة المصورة في الواقع الافتراضي على كيفية تذكر المشاهدين لها والاستجابة معها؟.

وفيما يخص خطر الواقع الافتراضي على ذكرياتنا، تدرس الطبيبة النفسية في كلية لافاييت جينفر تالاريكو عيوب الذاكرة  وتوصلت إلى ما يسمى "خطأ مراقبة المصدر"، موضحةً أن "ذاكرة المصدر هي طريقتنا لتذكر كيف توصلنا لمعرفة شيء معين، فعلى سبيل المثال، هل قرأت هذا الكتاب من قبل؟ هل أخبرني أحد من قبل بهذا الخصوص؟ هل تناولت هذه الفيتامينات من قبل أم أنني كنت أفكر بها؟ هل حقا حدث هذا، أم أنه مجرد حلم؟، ومراقبة المصدر - بحسب تالاريكو-  تعني قدرتنا على التذكر فيما إذا عشنا التجربة حقيقة، أو اقتنعنا بأنها تجربتنا الخاصة التي استوحيناها من قصة رواها أحد الاشخاص لنا".

وبما أن الواقع الافتراضي يضع المشاهد في تجربة عاطفية قوية تلتصق بذاكرته، تعتبر وفقاً لـ "تالاريكو" أداة خطيرة يمكن استغلالها من قبل وسائل الإعلام في تضليل المشاهد وتحريف الحقيقة بحسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية.

ومن الأمثلة على ذلك، تجربة أجرتها ستانفورد عام 2011 حول حماية البيئة ووقف قطع الأشجار على مجموعتين من الاشخاص، والتي أشارت إلى أن الذين عاشوا تجربة الواقع الافتراضي حول قطع الاشجار، استخدموا المناديل الورقية في حادث مدبر لتنظيف كأس من الماء، بنسبة 20% أقل من أولئك الذين اكتفوا بالقراءة فقط عن مضار قطع الأشجار.

يقول روبرت هرنانديز وهو أستاذ مشارك في مدرسة جنوب كاليفورنيا للإتصالات والصحافة ورائد في مجال وسائل الإعلام الافتراضية "أستطيع أن اضعكم في وضع يدرك فيه العقل أنه ليس حقيقياً، لكنه لا يزال يبدو وكأنه حقيقي. وبالتالي يسبب صدمة ويثير الذكريات السيئة، ومن هنا على الصحافي أن يسأل نفسه، ما هي وظيفتي؟ هل وظيفتي أن أؤذي الجمهور؟ أم أقوم بإيصال الأخبار والمعلومات؟ أم أنها وظيفة تجمع بين الأمرين، حتى يتمكن الجمهور من استيعاب المعاناة التي يمر بها اللاجئين الأطفال.

ويوضح هرنانديز أن هذه الطريقة الجديدة في رواية القصص الإخبارية والتي تؤدي حتما إلى التضليل، لا يجب اساءة استخدامها من قبل الصحفي، والذي يجب عليه أن لا يتوقف عن كونه أخلاقي ملتزم بالمعايير الصحفية المهنية، مهما تطورت الأدوات التكنولوجية في هذا المجال.

ويؤكد هرنانديز أن أي قصة إخبارية أو صورة أو فيديو تستدعي رد فعل عاطفي، يمكن للصحافي غير الملتزم أخلاقياً أن يتلاعب بها ويضلل الجمهور، وبالتالي يجب أن يضع الصحافي الجاد نصب عينه إيصال الرسالة دون استغلال العواطف والمشاعر، وذلك من خلال التفكير الجيد قبل النشر واختبار اثر تجربة الواقع الافتراضي على عينة قليلة ممن حوله قبل إيصالها الى الناس بشكل عام.

وفيما يخص تعامل غرفة الأخبار في صحيفة النيويورك تايمز مع القصص الإخبارية عبر الواقع الافتراضي، يبين هرنانديز أنها لم تأخذ الأمر على محمل الجد، لكنها تحاول اتباع عدد من القواعد الصحافية الأخلاقية للتأكد من أن الواقع الافتراضي يُستخدم بطريقة مسؤولة وأخلاقية.

ويترتب على الوسيلة الإعلامية أن تذكر الجمهور بطبيعة ما يراه وكيف يتناسب ذلك مع سياق القصة الأوسع، ومثال على ذلك فيلم الواقع الافتراضي الذي أنتجته تايمز بعنوان "الكفاح من أجل الفلوجة" وهو يجلب المشاهدين إلى الخطوط الأمامية للمعركة بين القوات الأمريكية وداعش، إلا أنه يُعد جزءاً صغيراً من قصة أوسع حول نفس الصراع، ويجب الإشارة الى ذلك، لأنه لا توجد ضمانات على أن جميع المشاهدين قرأوا عن هذا الصراع قبل مشاهدة الفيلم.

وبالتالي ينصح هرنانديز المختصين في الواقع الافتراضي استخدام السياق ووضع نصوص وترجمات تضع المشاهد في سياق القصة وتنقل له الصورة بشكلها الأوسع، ويضيف "تنقل الفيديوهات والصورة المستخدمة بتقنية 360 درجة المشهد كاملاً، ولا ضير من ظهور الصحافي ومعداته من كاميرا وما يرافقها من معدات، لمواجهة الانتقادات المتعلقة بالتلاعب والتضليل".

وختم هرنانديز بأن هذه التكنولوجيا أحدثت نقلة نوعية في مجال رواية القصص الإخبارية وتعتبر تغيرً نحو الأفضل طالما التزم الصحافي بالمعايير المهنية التي قامت عليها الصحافة منذ الأزل، واللجوء الى الحكم الصحافي السليم بعيداً عن الإثارة.

*الكاتب الأمريكي دان روبيتسكي، عمل طبيب أعصاب قبل أن يدخل عالم الصحافة في نيويورك، وحصل على شهادة من جامعة نيويورك في برنامج العلوم والصحة والبيئة، ويعمل حاليا في مجلتي Scientific American and ScienceLine.