ممدوح أبو الغنم
أكيد- انشغلت الصحف الخمس خلال شهر آب (أغسطس) الماضي بمجموعة من القضايا المحلية، تمحورت بشكل أساسي حول 11 قضية، هي أخبار العدوان الإسرائيلي على غزة، الإضرابات العمالية، ومشاريع القوانين، وأخبار الحوادث، وقضايا المياه، ونتائج التوجيهي، والقبول في الجامعات، وقضايا الطاقة، والسياحة، وارتفاع الأسعار، وأخيرا العقار. وغطّت الصحف هذه القضايا بما مجموعه 1731 خبرا وتقريرا إخباريا.
وتصدرت أخبار غزة قائمة اهتمامات الصحف خلال هذا الشهر، فغطّتها بـ541 خبرا، شكّلت 31% من الأخبار التي تخص القضايا السابقة الذكر، مع ملاحظة أن رصد أخبار غزة في هذا التقرير اقتصر على الجانب المحلي من المحتوى الإخباري المتعلق بالعدوان على غزة، مثل أخبار حملات الإغاثة، والمسيرات التضامنية، وغيرها.
القضية الثانية، التي شغلت الصحف المطبوعة، هي أخبار الإضرابات العمالية، وغطّتها بـ244 خبرا، بنسبة 14%، وكان على رأسها، إضراب المعلمين، الذي غطّته بـ220 خبرا، شكلت 90% من أخبار الإضرابات مجتمعة، وتلاه إضراب موظفي وزارة العمل، بـ14 خبرا، أما الأقل تغطية، فكان إضراب عمال "كيبكو" الذي غُطي بخبر واحد.
جاء تاليا في اهتمامات الصحافة، مشاريع القوانين، التي غُطيت، بـ195 خبرا، بنسبة 11%، وكان أعلاها مشروع قانون التعديلين الدستوريين، ويتعلق أولهما بمنح الملك صلاحية تعيين قائد الجيش، ومدير المخابرات، والثاني بتوسيع مهام الهيئة المستقلة للانتخاب، إذ غُطي هذا المشروع بـ93 خبرا، بما نسبته 47.7%، تلاه بفارق شاسع قانونا ضريبة الدخل، والبلديات، اللذين غُطّيا بـ18 و17 خبرا على التوالي، بما نسبته 9%. أما الأدنى تغطية، فكان قانونا المحاكمات المدنية، والاستثمار، إذ غطّى الأول بخبرين، والثاني بخبر واحد، بما نسبته 1 ونصف في المئة، على التوالي.
الحوادث، كانت الانشغال الثالث في الصحف المطبوعة، وغُطيت بـ184 خبرا، بما نسبته 10.6%، كان منها 54 خبرا يتعلق بجرائم قتل، ومشاجرات مسلحة، بما نسبته 29% تقريبا من أخبار الحوادث.
واحتلت قضايا المياه المرتبة الرابعة في اهتمامات الصحافة، فغطّتها بـ131 خبرا، نسبتها 7.5%، منها 56 خبرا، بنسبة 43% تقريبا، يخص انقطاعات المياه، وإصلاح خطوطها، في حين توزعت الأخبار الباقية على قضايا الصرف الصحي، وتوقيع الاتفاقيات، والاعتداءات على شبكات المياه، وغُطيت بـ29 و25 و21 على التوالي، وبنسب تراوحت بين 22 و16%، من أخبار المياه.
كما انشغلت الصحف بأخبار نتائج التوجيهي، التي ظهرت خلال آب، وغطّتها بـ106 أخبار، نسبتها 6%، تلاها في المرتبة السادسة، أخبار القبول في الجامعات، وبلغت 97 خبرا، بنسبة 5.6%.
وفي المرتبة السابعة جاءت قضية الطاقة، وغطّاها 56 خبرا، نسبتها 3% تقريبا، وبفارق قليل أخبار السياحة، وارتفاع الأسعار، وغُطّيتا بـ53، و49 خبرا، على التوالي، وبنسبة 3% تقريبا لكل منهما. في حين تذيلت الأخبار عن العقار، قائمة اهتمامات الصحافة خلال شهر آب، بـ21 خبرا، ونسبة 1% تقريبا.
إضراب للمعلمين وتعديلات دستورية ..
الإعلام طرف في الصراع لا أداة نقل محايدة له
دلال سلامة
كما هو واضح من الرصد الكمّي السابق لأبرز القضايا التي انشغلت بها الصحف المطبوعة، خلال شهر آب، فقد أفردت الصحف ربع مساحة تغطيتها تقريبا لقضيتين، هما: الإضرابات العمالية، ومشاريع القوانين، اللتين غُطّيتا بما نسبته 25% من تغطية هذه القضايا، وجاءتا تاليا بعد أخبار غزة، ونسبتها 31%.
في تغطيتها للإضرابات العمالية، اهتمت الصحف بشكل خاص، بإضراب المعلمين، الذي حظي بـ90% من تغطية الإضرابات العمالية، وفي مشاريع القوانين، أفردت الصحف ما نسبته 48% من حجم تغطيتها، لمشروع قانون التعديلين الدستوريين المتعلقين بصلاحيات الهيئة المستقلة للانتخابات، وصلاحيات تعيين قائدي الجيش والمخابرات.
في ما يلي، تحليل مفصّل لهاتين القضيتين، اللتين اختيرتا، ليس فقط بوصفهما مثالين على القضايا التي حظيت بمساحة كبيرة من اهتمام الصحف، ولكنهما، وهذا الأهم، تشتركان في أنواع من الاختلالات المهنية، التي تضرب عميقا في رسالة الإعلام نفسه، والدور المفترض به أن يلعبه، بوصفه، أولا، ناقلا محايدا للصراعات، لا واحدا من أطرافها، وثانيا، بوصفه أداة مهنية لغربلة الحقائق، وترتيبها، وتفسيرها، وتصديرها، من ثم، إلى الناس على شكل معلومات، تعطيهم صورة صادقة وواضحة ومتكاملة لواقعهم، بما يساعدهم على فهم هذا الواقع، واتخاذ مواقف حياتية تنسجم مع هذا الفهم.
لقد أثبت تحليل تغطية هاتين القضيتين أن بعض الصحف، في نقلها للانقسام عليهما، عملت بوصفها أداة في الصراع، فأبرزت أطرافا وهمّشت أخرى، كما أنها في تعاملها مع هذه الأطراف، اهتمت بفرزها إلى "مؤيد" و"معارض" أكثر مما اهتمت باستقراء مواقفها.
كما أثبت التحليل، أن تغطيتي القضيتين اشتركتا في أنهما صدّرتا، الحقائق الأساسية المتعلقة بهما، إلى الجمهور، على شكل "بيانات" (Data)، لا "معلومات" (Information)، والفرق بينهما هو أن الـ(Data)، هي الحقائق الخام، بصورتها المبعثرة، الغامضة، الناقصة، وغير المترابطة، في حين أن المعلومات، هي الحقائق، بعد غربلتها، وتفسيرها، وترتيبها في سياق منطقي مترابط وشامل. وهذا ما يحتاجه الجمهور ليفهم ما يجري من حوله. في حين أن من يعود إلى هذه التغطيات، خصوصا، تلك التي غطّت جلسات مجلس الأمة، سيجد أنها، في معظمها، لم تكن أكثر من خليط مشوش ومفكك، وغامض من الحقائق.
(1)
تغطية التعديلين الدستوريين في الصحف المطبوعة..
حضرت الحكومة وغابت الأمة
انشغلت الصحف، خلال آب (أغسطس) الماضي، بحدث إقرار تعديلين دستوريين، على المادتين 67 و127 من الدستور، يوسّع أولهما مهام الهيئة المستقلة للانتخابات، لتشمل إضافة إلى الانتخابات النيابية، الانتخابات البلدية، وانتخابات عامة أخرى، ويحصر الثاني، بالملك، صلاحية تعيين قائد الجيش، ومدير المخابرات العامة، بعد أن كانا يُعيّنان بتنسيب من رئيس الوزراء.
غطّت الصحف الخمس (الدستور والرأي والسبيل والعرب اليوم والغد) الحدث بما مجموعة 53 ألف كلمة تقريبا، كان أحد أبرز سماتها ضعف تمثيل وجهة النظر المعارضة للتعديلين، فقد خصّصت التغطيات بالمجمل ما نسبته 48% تقريبا من مساحتها لعرض وجهة النظر المؤيدة للتعديلين، مقابل 7% تقريبا، لوجهة النظر المعارضة. وفي التحليل الفردي للصحف، نجد أن هذا التفاوت الكبير في تمثيل وجهتي النظر ينطبق على أربع منها، كما هو واضح في الجدول أدناه.
جدول (1): توزيع تمثيل وجهات النظر المختلفة في تغطية التعديلين الدستوريين بحسب الصحيفة
الصحيفة | حجم التغطية بالكلمات | حجم وجهة النظر المؤيدة بالكلمات | نسبة وجهة النظر المؤيدة % | حجم وجهة النظر المعارضة بالكلمات | نسبة وجهة النظر المعارضة % | حجم المحتوى المحايد بالكلمات | نسبة المحتوى المحايد % | حجم ما لا علاقة له بالتعديلين الدستوريين | نسبة ما لا علاقة له بالتعديلين الدستوريين % |
الدستور | 12848 | 6173 | 48 | 255 | 2 | 2921 | 22.7 | 3499 | 27.3 |
الرأي | 16095 | 10448 | 64.9 | 325 | 2 | 1867 | 11.6 | 3455 | 21.5 |
السبيل | 4404 | 901 | 20.45 | 608 | 13.8 | 977 | 22.18 | 1918 | 43.55 |
العرب اليوم | 7102 | 2469 | 34.8 | 1419 | 20 | 1893 | 26.6 | 1321 | 18.6 |
الغد | 12325 | 5126 | 41.7 | 987 | 8 | 3288 | 26.6 | 2924 | 23.7 |
بداية، فإن الحكم على توازن أي تغطية، لا يستند إلى افتراض أنها يجب أن تنقسم بالتساوي بين المواقف المختلفة من قضية ما، ذلك أن منح موقف ما، لا يعبر إلا عن بضعة أفراد، مساحة وعدد مصادر مساويين لموقف آخر يعبر عن أغلبية ساحقة، سيوحي للجمهور بأن للموقفين القاعدة الجماهيرية ذاتها، وفي هذا تزييف للواقع. لكن أي تغطية يجب أن تنقل بـ"أمانة" الطريقة التي انقسم بها المجتمع، بأطرافه المعنية حول قضية ما. وبذلك، فإنه في ما يتعلق بتغطية التعديلين الدستوريين، فإن السؤال هو، إن كان هذا التفاوت في تمثيل وجهتي النظر في الصحافة المطبوعة، انعكاسا أمينا لهما في الواقع.
أربع من الصحف الخمس، نشرت تقارير، عرضت فيها آراء أشخاص، طرحتهم بوصفهم ممثلين لشرائح مجتمعية مثل أكاديميين، ومتقاعدين عسكريين، وفاعليات شعبية ونيابية وحزبية، فنشرت "الرأي" ست تقارير، ضمت 17 مصدرا[1]، جميعهم مؤيدون، ونشرت الدستور تقريرين [2]، ضمّا[3] 7 مصادر جميعهم مؤيدون، ونشرت "الغد" تقريرين ضمّا 9 مصادر جميعهم مؤيدون، في حين نشرت "العرب اليوم" تقريرين ضما 6 مصادر، 3 منهم مؤيدون، وثلاثة معارضون. إذن، من بين 39 مصدرا اعتمدته تقارير استطلاع المواقف المجتمعية من التعديلين، كان هناك ثلاثة فقط من المعارضة.
في السياق نفسه تفاوتت الصحف في تغطيتها بيانات تأييد أو معارضة للتعديلين الدستوريين، التي أصدرتها أحزاب وتحالفات، ومارس بعض هذه الصحف، ما يمكن أن يُفهم بوصفه "انتقائية"، فقد غطّت "الرأي"، ثلاث بيانات مؤيدة، أصدرها كلّ من، برنامج مراقبة الانتخابات "راصد"، و"كتلة الاتحاد الوطني"، و"الوطنية للمتقاعدين العسكريين"، ولم تغطّ في المقابل بيانات معارضة، أصدرتها في الوقت ذاته قوى سياسية أخرى، هي "حزب جبهة العمل الإسلامي"، و"حزب الوحدة الشعبية"، و"ائتلاف الأحزاب القومية واليسارية". وفي الجهة المقابلة، غطّت "السبيل" بياني "الوحدة الشعبية"، و"العمل الإسلامي" المعارضين، ولكنها لم تغطّ أيّا من البيانات المؤيدة السابقة، وهو أمر فعلته العرب اليوم، التي غطت بيان "ائتلاف اليسارية والقومية" المعارض، ولم تغط أيا من بيانات التأييد.
فيما غطّت "الدستور" ثلاث بيانات مؤيدة أصدرها كل من، "تحالف نزاهة"، و"اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين"، و"حزب الشهامة"[4]، وهي غطّت، إضافة إلى ما سبق، بيان "ائتلاف القومية واليسارية" المعارض، ولكنها حذفت منه عبارات مفصلية[5]. أما "الغد"، فقد غطّت ثلاث بيانات معارضة لـ"العمل الإسلامي"، و"القومية واليسارية"، و"حزب الوحدة"، مقابل بيان مؤيد واحد، لـ"وطنية المتقاعدين العسكريين".
حضرت الحكومة وغاب البقية
الجهة الوحيدة التي يمكن القول إنها حظيت، نسبيا، بفرصة شرح وجهة نظرها كانت الحكومة، ولم يتعلق الأمر بحجم المساحة الممنوحة لها، التي بلغت 12% تقريبا من مجمل التغطية، ولكن في أن هذه المساحة استثمرت جيدا في تقديم شرح واضح ومتكامل لمبررات إجراء التعديل، كان أبرزها المنبر الذي منحته تغطيات الصحف الخمس لمداخلة رئيس الوزراء في أولى جلسات استثنائية النواب، التي شهدت المناقشة الأولى للتعديلين، وهي مداخلة شكّلت وقتها ما نسبته 29% من مجمل تقارير الصحف الخمس، التي غطّت تلك الجلسة.
جدول (2): حجم تمثيل وجهة النظر الحكومية في مجمل تغطية التعديلين الدستوريين بحسب الصحيفة
الصحيفة | عدد العناوين التي غطّت بها التعديل الدستور | حجم التغطية بالكلمات | حجم وجهة النظر الحكومية | حجم وجهة النظر الحكومية % |
الدستور | 23 | 12848 | 1915 | 14.9 |
الرأي | 29 | 16095 | 2600 | 16.15 |
السبيل | 10 | 4404 | 481 | 10.92 |
العرب اليوم | 13 | 7102 | 813 | 11.44 |
الغد | 23 | 12325 | 1459 | 11.8 |
في المقابل، كان واضحا في تغطية جلسات مناقشة وإقرار التعديلين في "النواب" و"الأعيان"، أن النواب والأعيان، مؤيديهم ومعارضيهم، لم يمنحوا فرصة مشابهة، فالتغطيات لم تقدم في المجمل معلومات واضحة محددة ومتكاملة عن وجهات النظر المعارضة أو المؤيدة، واكتفت في سياق توضيحها لمواقف النواب بأن تنسب إلى الواحد منهم عبارات مبتورة، مختصرة اختصارا مخلا، وفي كثير من الأحيان غامضة، أو حتى مشوّهة لمواقفه. ولننظر، عل سبيل المثال، في تغطية الصحف الخمس لجلسة مجلس النواب الاستثنائية الأولى، التي عُقدت يوم 19 آب (أغسطس) الماضي.
لقد نسب أحد التقارير إلى النائب، جميل النمري قوله إن "البلاد لم تكن بحاجة للتعديل (...) المتعلق بتعيين القادة الأمنيين"، دون أن يخبر التقرير الجمهور لماذا يعتقد النائب ذلك. وينسب تقرير آخر إلى النائب، علي السنيد، وصفه للتعديل السابق بأنه ""تقويض لنظام الحكم والبنية السياسية للبلاد"[6]، من دون أن يشرح كيف يفعل التعديل ذلك. وفي تقرير ثالث، يُنسب إلى النائب، رلى الحروب قولها إن "التعديلات الدستورية تتناقض مع نصوص الدستور"، ولا يذكر التقرير كيف ومع أي مواد دستورية رأت النائب أنها "تتناقض" هذه التعديلات.
ما سبق هو مجرد أمثلة، على أسلوب الأغلبية الساحقة من التغطية في عرضها لمواقف النواب، الذي اتبعته أيضا مع النواب المؤيدين، الذي اكتف التغطيات في المجمل بإعلان تأييد الواحد منهم، دون تفسير، أو مترافقا مع وصفه التعديلات بأنها "إصلاحية" أو "هامة" أو "ضرورية" أو "تحفظ أمن البلد"، لكن من دون أي تبرير حقيقي للموقف.
سمة أخرى، كانت واضحة، هي أن 10% من مساحة التغطية في ثلاث صحف هي، "الرأي" و"العرب اليوم" و"الغد"، احتلتها اقتباسات منسوبة إلى نواب، وكانت مصاغة بطريقة لا يُعرف معها إن كانوا مؤيدين أو معارضين، مثلا، ذكر أحد التقارير أن 7 نواب طلبوا إحالة التعديلات إلى اللجنة القانونية، دون أن تُحدد مواقفهم، ويمكن هنا "افتراض" أنهم لم يتخذوا موقفا بعد، لكن في تقرير صحيفة أخرى، سنرى أن اثنين منهم، هما إنصاف الخوالدة، ووصفي الزيود، ظهرا مؤيدين للتعديلات. والغريب أنه في تقرير صحيفة ثالثة، يُنسب إلى النائب الخوالدة، ما يشي بأنها ضد التعديل المتعلق بتعيين القادة الأمنيين، إذ تقول إن "من يُعيّنون بإرادة ملكية يتعاملون مع المواطنين ومجلس النواب بفوقية".
وتكرر الأمر ذاته، عندما أشير في أحد التقارير إلى أن 15 نائبا قالوا إن التعديل المتعلق بصلاحيات الملك هو "دسترة" لصلاحية تمارس عمليا، دون أن يوضح التقرير إن كانوا يوافقون على هذه "الدسترة" أم لا، لكن تقريرا في صحيفة أخرى كشف أن أربعة منهم، يؤيدونها، هم يوسف القرنة، ونجاح العزة، وقصي الدميسي، وقاسم بني هاني.
في السياق ذاته، ذكر أحد التقارير أسماء 8 نواب، طالبوا بالتصويت على التعديلات، في الجلسة نفسها من دون إحالتها إلى اللجنة القانونية، وهذا يعني أن هؤلاء قد حسموا أمرهم، لكن التقرير لم يوضح نهائيا موقفهم، في حين أن تقريرا آخر ، في صحيفة أخرى، حدد موقف اثنين منهم، هما فاطمة أبو عبطة، وخالد البكار، بأنه مؤيد للتعديلات.
أيضا، هناك نواب كانوا "ملتبسي" الموقف في تقرير صحيفة، ظهروا واضحي الموقف في تقرير صحيفة أخرى، مثلا، في تقرير، يُنسب إلى النائب أمجد المجالي أنه "وجه (...) عددا من الأسئلة حول تأثير التعديلات الدستورية على الولاية العامة للحكومة، مطالبا بإحالتها إلى اللجنة القانونية"، وهو اقتباس لا يوضح موقفا، ولكننا سنجد موقف المجالي واضحا، في تقرير صحيفة أخرى، إذ يُنسب إليه بوضوح أن التعديلات تمثل "انتقاصا من صلاحيات الحكومة".
والأمر ذاته حدث مع النائب هند الفايز، التي ينسب إليها تقرير تساؤلها "ما إذا كان التعديل المقترح سيمنح المجلس سلطة مراقبة موقع رئيس هيئة الأركان والمخابرات العامة"، وهنا، أيضا، الموقف غير محدد، لكن تقريرا آخر، ينسب إليها ما يكشف أن تساؤلها كان في سياق استنكاري، إذ يقول التقرير إنها "في إطار المطالبة برد القانون" تساءلت "من سيحاسب الجيش والمخابرات وهل تريدون من الشعب أن يكون في مواجهة الملك مباشرة".
مثال آخر، يذكر تقرير أن النائب عدنان العجارمة قال إن "هناك موادا أخرى في الدستور بحاجة إلى التعديل، وطالب بدراسة التعديلات الدستورية"، وهي إفادة لا توضح موقفه، لكننا سنجد تقريرا آخر ينسب إليه أنه يرى أن التعديلات المقترحة "تشمل خللا واضحا للمبدأ الدستوري في المساءلة".
أيضا، يُنسب إلى النائب مصطفى شنيكات في أحد التقارير تصريح غامض مفاده أن "التعديل سيخلق حكومات جديدة"، لكننا في تقرير لصحيفة أخرى[7]، سنجد تتمة للتصريح توضحه (نسبيا)، وهي أن التعديلات المقترحة تهدف إلى "أن تأتي بحكومات ظل جديدة".
وفي تغطية جلسة إقرار "الأعيان" للتعديلين، التي غطّتها، أربع صحف[8]، نجد أن صحيفتين هما "الدستور" و"السبيل"، تشيران إلى معارضة عين واحد هو "مهند العزة"، للتعديل المتعلق بتعيين القادة الأمنيين، لكنهما لا تنقلان تبريرا لهذه المخالفة، في حين تنسب "الرأي" إليه عبارة تقول "إن من يؤتمن على التربية والصحة يؤتمن على الجيش والأمن"، لكن هذه العبارة لم تسهم في توضيح موقفه، ذلك أن إعلان رفضه التعديل تمّ في بداية التقرير المكون من 900 كلمة، في حين ذُكرت هذه العبارة في ختام التقرير مقطوعة عن أي سياق، ويفصل بين الاثنين 600 كلمة، لكننا سنفهم معنى العبارة في تغطية الصحيفة الرابعة، وهي الغد، التي نسبت إليه تساؤله "كيف يمكن أن أسلم التربية والتعليم والصحة لحكومة برلمانية، ولا أسلمهم مواقع أخرى"[9].
وفي الجلسة السابقة ذاتها، تذكر الصحف الأربع أن العين طاهر كنعان امتنع عن التصويت، لكن ثلاثا منها، تنقل عنه أقوالا تدل على تأييده، إذ قال إن "التعديل المقترح جزء من حزمة الإصلاح"، و"التعديلات جاءت لكي يبقى الجيش بعيدا عن السياسة"، و"التعديل الدستوري سيترافق مع تفعيل وزارة الدفاع وأن الجيش هو للوطن ككل"[10]، لكن أيا من التغطيات لم يفسر للقراء سبب امتناعه عن التصويت، إذا كان هذا رأيه في التعديلات.
وعودة إلى النواب، نجد أن التغطيات اللاحقة لجلستهم الاستثنائية الأولى، قد انشغلت بنقل خلافهم على الفقرة 3 من تعديل المادة 127، التي نصّها "على الرغم مما ورد في المادة (40) من الدستور، يُعيّن قائد الجيش ومدير المخابرات بقرار من الملك"، فنقلت التغطيات مطالبات نواب بشطب الفقرة، ونقلت جدل آخرين حول صياغتها اللغوية، ومطالباتهم حذف عبارة "على الرغم مما ورد في المادة (40)"، واستخدام بدلا منها، عبارة "دون الشكل الوارد في المادة (40)"، لكن الخلاف السابق، الذي كررت التغطيات الإشارة إليه، ظل مبهما، إذ واصلت الصحف الإشارة إلى المادة (40) في سياق عرضها للتعديلين المقترحين، وفي سياق إشارتها إلى الجدل المتعلق بها، من دون أن يذكر أغلبيتها الساحقة فحوى هذه المادة، فمن بين 32 تقريرا أُشير فيها إلى هذه المادة، ذكر تقرير واحد فحواها، الذي ينص على أنه "يمارس الملك صلاحياته بإرادة ملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين يبدي الملك موافقته بتثبيت توقيعه فوق التواقيع المذكورة"، لينجلي بذلك سبب الخلاف على مضمون التعديل وعلى صياغته اللغوية، إذ يتضح أن المادة (40) تتعلق بولاية الحكومة، والخلاف بين النواب كان سببه أن بعضهم رأى في التعديل إسقاطا لها. أحد التقارير أشار بوضوح ومباشرة، إلى أن تعديل المادة (127)، "أسقط" عمليا المادة (40)، ولكن الإشارة كانت قاصرة، لأنها لم تترافق مع ذكر لفحوى المادة (40).
ويلاحظ في ما سبق أن النقاشات في المجلسين تمحورت حول تعديل صلاحية تعيين القادة الأمنيين، فيما غاب، أو كاد، النقاش حول توسيع صلاحيات الهيئة المستقلة للانتخابات، والسبب هو أن التعديل المتعلق بها، لم يكن محط خلاف في "النواب" و"لأعيان"، كما هو التعديل الآخر. وخارج الجلسات، غطّت "الرأي" هذا التعديل بتقريرين منفصلين، وباستثناء ذلك، فإن هذا التعديل، على أهميته، لم يحظ بنقاش حقيقي.
مواقف النواب.. "داتا" لا "معلومات"
واضح، من جميع ما سبق، كمّ الضبابية والتشويش التي وقعت فيهما التغطيات، وأوقعت فيهما القراء، وما ساهم في تعميق هذا التشويش، هو الطريقة التي اتبعتها بعض التغطيات في عرض مواقف النواب والأعيان، فقد اعتمدت أسلوب "رصف" الاقتباسات إلى جانب بعضها البعض، ومن النماذج الممثلة بوضوح على ذلك، تقريران لتغطية "استثنائية" النواب الأولى، إذ أوردت آراء المؤيدين والمعارضين وغير محددي المواقف، في خليط من الاقتباسات السريعة والمتنافرة والمتلاحقة، التي تصعد بالقارئ، ثم تهبط، ثم تعاود الصعود والهبوط، لتقطع في النهاية نفسه.
لقد صدّرت التغطيات الانقسام على التعديلين إلى الجمهور على شكل "بيانات" (Data)، وليس "معلومات" (Information)، والفرق بينهما، كما سبقت الإشارة، هو أن الـ(Data) حقائق "خام"، وتكون حصيلة مشاهدات وملاحظات تتعلق بحدث معين، ولكنها تفتقر إلى نظام يربط بينها في سياق واضح ومفهوم. هذا التنظيم هو ما يحوّلها إلى "معلومات"، التي هي الحقائق المنتظمة في سياق منطقي ومفهوم، والتي يمكن للجمهور أن يحوّلها إلى "معرفة"، أي أن يستخدمها، في ما بعد لاتخاذ القرارات المناسبة.
إن تحليل تغطيات التعديلين، يثبت أنها، في المجمل، نقلت إلى جمهور "داتا"، لا "معلومات"، فهي لم تتبع في عرضها للمواقف، أو حتى في غيرها من المحاور، لم تتبع ألف باء الكتابة، أي التسلسل المنطقي للأفكار، المتمثل في فرز وجهات النظر في محاور، يُعبّر عنها باقتباسات واضحة متكاملة منسوبة إلى المعنيين، ولا يتعلق الأمر فقط بفرز المؤيد من المعارض، بل حتى داخل الموقف الواحد، يمكن لاعتبارات متنوعة أن تحدد موقفا ما. إذن لم تنظم التغطيات الأفكار، بطريقة تسمح للقارئ أن يبني في ذهنه خريطة لانقسام المواقف، تساعده على تمييز هذه المواقف، والموازنة بينها، ومن ثم، اتخاذ موقفه الخاص من التعديلين، وهذه هي العملية التي تتحول فيها "البيانات" إلى "معلومات" إلى "معرفة".
التغطية بالطريقة التي تمّت بها، لم تساعد الجمهور على إدراك زوايا مختلفة للنظر إلى التعديلين، لأنها، في معظمها، لم تستقرئ أصلا حقيقة المواقف، بل كان كل ما فعلته هو أنها "فرزت" أصحابها إلى فريقين، مؤيد ومعارض، والمواجهة التي أبرزتها معظم التغطيات بينهما، لم تكن مواجهة بين الحجج، أيها أقوى، ولكنها مواجهة بين جماعتين، أيهما أكثر، وهي لتحقيق ذلك، لم تكن بحاجة إلى أكثر من إعلان الموافقة أو الرفض.
لهذا، فإن المفارقة الكبرى، في تغطية التعديلين الدستوريين، كانت أن مؤيدي التعديلين، رغم ارتفاع نسبة تمثيلهم، كانوا ضحايا لهذا النوع من التغطية، بقدر ما كان المعارضون ضحايا له، إذ لم يحظوا هم أيضا بفرصة لشرح مواقفهم، ولم يكن لهم ميزة سوى أنهم تمددوا على مساحة أوسع من المعارضين، لكن هذه المساحة لم تكن إلا توسعا أفقيا، دون أي عمق.
لقد حرم هذا النوع من التغطية الجمهور، من تبين مواقف ممثليه، بما يساعده على محاكمة أدائهم، واتخاذ قرار الاختيار في أي انتخابات قادمة، والأهم هو أنه أعاق إثارة نقاش حر، يتفاعل معه الجمهور.
ملاحظة أخيرة، تجب الإشارة إليها، هي أن واحدة من سمات تغطية التعديلين الدستوريين هي الارتفاع (النسبي) لحجم المحتوى الذي لا علاقة له بالحدث الأساسي، وهو التعديلين الدستوريين، إذ بلغت نسبته 24.8% من مجمل التغطية، وسبب ذلك هو أن تغطية التعديلين في العديد من التقارير كانت ضمن قضايا أخرى، مثلا في تغطية جلسة لرئاسة الوزراء، أو جلسة للنواب، على جدول أعمالها قوانين أخرى، أو لقاء رئيس الوزراء برؤساء صحف وكتّاب أعمدة، وغيرها. ففي هذه التقارير سنجد الحديث عن التعديلين يترافق مع الحديث عن العدوان على غزة، والأوضاع في العراق، وقانون الطاقة المتجددة، وميزانية صندوق معالجة قصور وظيفة الكلى، وغيرها. وهذا "الخلط" بين قضايا لا علاقة بينها في تغطية واحدة، كان عامل تشتيت.
(2)
إضراب المعلمين في الصحف المطبوعة.. الجمهور أيضا ذهب إلى "المجهول"
يوم 24 آب (أغسطس) الماضي، بدأ ما يقارب المليوني تلميذ عامهم الدراسي الجديد، وسط إضراب للمعلمين، دخل يومها أسبوعه الثاني، وتعليقا على ذهاب التلاميذ إلى مدارس أضرب معلموها، نشرت إحدى الصحف تغطيتها للحدث تحت عنوان: "1.85 مليون طالب يتوجهون للمجهول اليوم".
تابعت الصحف الخمس، الإضراب الذي استمر أسبوعين، بتغطية مكثفة، بلغت مئة و3 آلاف كلمة، ولكنها رغم ذلك، لم تجب، بوضوح على سؤالين أساسيين هما: ما هي مطالب المعلمين؟ وكيف استجابوا للإضراب؟ بما يجعل الأمر يبدو كما لو أن الجمهور ذهب هو أيضا إلى "المجهول".
فالتغطيات، لم تنقل بشكل عام، للجمهور معلومات واضحة ومحددة عن مطالب المعلمين، تمكّنه من فهم دوافعه، فاكتفت إما بالإشارات العابرة، التي جاءت على شكل عناوين عريضة، أو على النقيض من ذلك، أغرقته في تفاصيل حقائق وأحداث، مقطوعة عن أي سياق، ومن دون أن تزوّده بأي معلومات خلفية عنها.
أيضا، لم تنقل التغطيات، في المجمل، للجمهور، صورة واضحة لسير الإضراب في الميدان، فتضاربت الروايات، حول الالتزام به، وموقف الأهالي منه، وبدا في العديد من مواطن التغطية، التي تفاوتت بعض الصحف بشكل حاد في تمثيلها لوجهتي النظر المعارضة والمؤيدة ، بدا كما لو أن بعض هذه الصحف تغطي إضرابين، لا إضرابا واحدا.
لماذا أضرب المعلمون؟
يوم 2 آب (أغسطس) الماضي، رفعت نقابة المعلمين، إلى وزارة التربية، كتابا ضمنته ست مطالب، قالت إنها إن لم تُلبّها فإنها ستلجأ إلى الإضراب، الذي بدأته فعلا يوم 17 آب (أغسطس) الماضي. وقد غطّت صحيفة واحدة الكتاب[11]، والمفارقة هي أنه رغم أن المطالب معروضة باختصار، وتحتاج إلى معالجة صحفية، توضحها، وتقدم إضاءة خلفية لكل منها، إلا أنها كانت المادة الصحفية الوحيدة التي قدّمت بحد أدنى من التكامل والوضوح مطالب المعلمين.
ذلك أن الصحف في عرضها للمطالب، اتبعت أسلوب العناوين العامة العريضة، وواصلت ، طوال أيام الإضراب، إعادة نشر فقرة مفادها أن مطالب المعلمين هي: تعديل نظام الخدمة المدنية، وإحالة ملف صندوق "ضمان التربية إلى القضاء، وإلغاء ازدواجية التأمين الصحي، وتحسين خدماته، وإقرار "علاوة الطبشورة"، وإقرار نظام المؤسسات التعليمية الخاصة، وإقرار تشريعات رادعة للاعتداءات على المعلمين.
واستخدمت التغطيات، الفقرة السابقة، بوصفها معلومات خلفية، رغم أنها لا تقدم في الحقيقة معلومات قدر ما تثير تساؤلات، فما هي بالضبط بنود "الخدمة المدنية" التي يريد المعلمون تعديلها؟ وماذا تعني "ازدواجية التأمين الصحي"؟ وما هو صندوق "ضمان التربية"؟ ولماذا تطالب النقابة بإحالته إلى القضاء؟ ومن أين جاءت "علاوة الطبشورة"؟، ولماذا تعتبر النقابة أن التشريعات الحالية غير رادعة للاعتداءت على المعلمين، وتطالب بتغييرها؟ ولماذا بالتحديد، نظام للمؤسسات التعليمية الخاصة؟
لقد عرضت التغطيات تفاصيل هذه المطالب، وهي التفاصيل المفترض أن تجيب على الأسئلة السابقة، لكن المشكلة هي أنها لم تعرضها من خلال فقرات بأفكار واضحة متكاملة متسلسلة، تجعل القارئ يفهم بجلاء دوافع الإضراب، بل عرضتها من خلال الاقتباسات المنسوبة لأطراف الحدث المختلفة، وهي هنا: النقابة، ووزارة التربية، والمعلمين، والوزراء المعنيين، وأعضاء لجنة التربية النيابية. وكانت مشكلة هذه الاقتباسات، هي أنها، في المجمل، نُقلت عن أصحابها كما هي، وفي كثير منها، كانت الحقائق مبتورة، أو مشتتة، أو مبهمة، أو تتضمن إحالات إلى أحداث وحقائق، ليس لدى القارئ العادي خلفية عنها، ولم يزوده الخبر بمعلومات عنها.
مثلا، في ما يتعلق بصندوق "ضمان التربية"، فإن الأغلبية الساحقة من الإشارات إليه، هي إشارات عابرة، لا تقول أكثر من أنه أحيل إلى هيئة مكافحة الفساد، أما التفاصيل القليلة المتاحة، فجميعها أجزاء من اقتباسات، جاءت على شكل معلومات مشتتة ومبهمة، فيقرأ الجمهور عن المطالبة بـ"إعادة الأموال التي نُهبت من صندوق ضمان التربية"، وعن تقرير لجنة التحقيق التي، شكلتها وزارة التربية، وأثبتت إتلاف كل وثائقه ما قبل العام 2005، وأن عجزه وصل إلى 300%. وتأكيدات وزارة التربية أن الصندوق أُحيل إلى "مكافحة الفساد"، وديوان المحاسبة، لكن وسط كل هذا، لا يخبر أحد الجمهور عن طبيعة هذا الصندوق، ومتى تأسس، وما هو بالضبط فحوى الاتهامات بالفساد الموجهة إلى إدارته، ومتى بدأت هذه الاتهامات، ومتى صدر التقرير السابق الذكر، وماذا قال إضافة إلى قصة الوثائق المتلفة.
مثال آخر، تكرر استخدام مصطلح "علاوة الطبشورة" 78 مرة في التغطيات، ولكنها كانت تأتي، إما من دون توضيح. أو إذا كانت ضمن اقتباس، فإننا نجد صاحب الاقتباس يخوض في جدال مبهم بالنسبة للقارئ، فالمصدر الوزاري يدافع عن موقف الوزارة الرافض لإقرار العلاوة، وينتقد نقابة المعلمين التي ترفض "إعادة تعريف المعلم"، من دون أن يشرح التقرير ما هو المقصود بـ"تعريف المعلم"، وعلاقته بالعلاوة، بل يجد القارئ بعضا من التفسير، في تقرير آخر، على لسان مصدر نقابي، يدافع بأن إعادة تعريف المعلم، التي تقترحها الوزارة تعني "حرمان الإداريين من تلك العلاوة". وهنا، سيُفهم "ضمنا" أن وزارة التربية تريد حصر العلاوة بالمعلمين دون الإداريين، وسيؤكد هذا الفهم تقرير ثالث، يُنسب فيه إلى مصدر تربوي أن تعريف المعلم حاليا هو "كل من يعمل في وزارة التربية"[12].
والفكرة في ما سبق، هي أنه عندما يتعلق الأمر بتفاصيل المطالب، أو حتى الطريقة التي سارت بها المفاوضات بين النقابة والحكومة، فإن الصحف لم تتبع منهجا يتمّ وفقه نقل صورة متكاملة ومفهومة للحدث، بل كان الأمر مرهونا، بالكامل بصدفة ما سيقوله المصدر، ومن ذلك مثلا، ما يتعلق بمطالبة المعلمين إلغاء "ازدواجية" التأمين الصحي، فقد ذُكرت 15 مرة في التغطيات، 9 منها، من دون أي توضيح لما تعنيه الازدواجية، ولكن في المرات الـ6 الباقية صادف أن المصدر أوضح أن المقصود بها ازدواجية اقتطاع رسم التأمين الصحي من المعلم وزوجته المعلمة.
ما سبق هو مجرد أمثلة، ويمكن العودة إلى التغطيات، ومتابعة الطريقة التي شرحت فيها المطالب، والطريقة التي غطّي فيها أيضا تقدم المفاوضات بين نقابة المعلمين، ووزارة التربية، فهنا أيضا، ورغم أن بعض التقارير نقلت إفادات مفصلة، ولكن هذا شابه أيضا خلل عدم تزويد القراء بخلفية عما يتحدث عنه المصدر، فكانت هذه الأقوال مفهومة، فقط لمن هم داخل القضية، وليس للجمهور العادي الذي يملك حق معرفة ما يدور حوله.
لقد نقلت الصحف مطالب المعلمين، والجدل حولها، في خليط "مشوش" من الحقائق، التي لم تُفرز في محاور متمايزة، في كل منها أفكار محددة، ومتكاملة، ومترابطة، تجعلها قابلة للفهم، أي أنها نُقلت إلى الجمهور على صورة بيانات (Data)، لا معلومات (information)، والفرق بينهما هو أن "البيانات" هي الحقائق الأولية الخام، التي هي حصيلة معاينة حدث ما، والتي لا قيمة لها، إلا بتنظيمها في سياق واضح ومنطقي، فهذا السياق هو ما يحولها إلى معلومات قابلة للفهم، تمكّن المتلقي من استيعاب الحدث، واتّخاذ موقفه الخاص منه.
لقد اكتفت الصحف بأن تكون مجرد "ناقل سلبي" لأقوال أطراف الصراع، من دون أن يُبذل أي مجهود لتنظيم هذه الأقوال في محاور، يشتمل كل منها على أفكار مترابطة، ومن دون أن يزود القارئ بالمعلومات الخلفية اللازمة لفهم السياق الذي يتحرك فيه الحدث، وهذا وحده ما كان سيجعل الجمهور يفهم حيثيات الإضراب، ويتخذ بناء على هذا الفهم موقفا منه. عوضا عن ذلك، كانت التغطيات، خصوصا، تلك التي تضمنت سردا لأقوال مصادر عدّة، كانت أشبه بإدخال القارئ إلى غرفة مليئة بضجيج بأشخاص يتحدثون في وقت واحد.
إضراب واحد وتغطيات عدّة
تفاوت تمثيل وجهات النظر المختلفة في تغطيات الصحف، بالتحديد في ما يتعلق بتمثيل طرفي الصراع في هذه القضية، أي مؤيدو الإضراب ومعارضوه، وأكثر الصحف تفاوتا في تمثيل وجهتي النظر كانتا "الدستور" و"الرأي"من جهة، و"السبيل" من جهة أخرى، كما هو واضح من الجدول (1) أدناه، فقد بلغت المساحة التي خُصّصت لنقل وجهة النظر المعارضة للإضراب في "الدستور" ما نسبته 52.6% من مجمل تغطيتها، مقابل 19.1% لوجهة النظر المؤيدة للإضراب. وفي "الرأي"، بلغت نسبة تمثيل وجهة النظر المعارضة 46.1%، من مجمل تغطيتها، مقابل 14.4% للمؤيدة.
وفي الجهة المقابلة، خصّصت "السبيل" ما نسبته 67.5% من مجمل تغطيتها لوجهة النظر المؤيدة للإضراب، مقابل 9.2% لوجهة النظر المعارضة. في حين سجّلت "الغد" و"العرب اليوم" نسبة أقل تفاوتا، فخصّصت "الغد" لوجهة النظر المؤيدة 41.4%، والمعارضة 22.1%. وخصّصت "العرب اليوم"، لوجهة النظر المعارضة 38.4%، والمؤيدة 27% من مجمل تغطيتها.
جدول (1)، توزيع وجهات النظر المختلفة في تغطية إضراب المعلمين حسب الصحيفة
الصحيفة | حجم التغطية الكلي بالكلمات | حجم تمثيل وجهة النظر المؤيدة للإضراب بالكلمات | حجم تمثيل وجهة النظر المؤيدة للإضراب % | حجم تمثيل وجهة النظر المعارضة للإضراب بالكلمات | حجم تمثيل وجهة النظر المعارضة للإضراب % | حجم تمثيل وجهة النظر المحايدة بالكلمات | حجم تمثيل وجهة النظر المحايدة % | حجم ما لا علاقة له بالإضراب بالكلمات | حجم ما لا علاقة له بالإضراب % |
الدستور | 24550 | 4688 | 19.1 | 12912 | 52.6 | 5300 | 21.6 | 1650 | 6.7 |
الرأي | 27612 | 3995 | 14.4 | 12719 | 46.1 | 7194 | 26.1 | 3704 | 13.4 |
السبيل | 23485 | 15845 | 67.5 | 2150 | 9.2 | 3295 | 14 | 2195 | 9.3 |
العرب اليوم | 4775 | 1287 | 27 | 1837 | 38.4 | 1596 | 33.4 | 55 | 1.2 |
الغد | 22798 | 9446 | 41.4 | 5041 | 22.1 | 6677 | 29.3 | 1634 | 7.2 |
لقد كان الحدث واحدا، لكن التغطيات كانت، في بعض جوانبها، متعددة، ولا يتعلق الأمر فقط بتمثيل وجهتي النظر الأساسيتين في هذه القضية، التي كان واضحا أن كل صحيفة قد خصّصت المساحة الأكبر من تغطيتها لوجهة النظر المتناسبة مع سياستها التحريرية، لكن الأمر يتعلق أيضا، بتغطية ما يُفترض أنه حقائق، كان يجب أن تُنقل إلى الجمهور موحدة، بقطع النظر عن موقف الصحيفة، وهذا في بعض مواضع من هذه التغطية لم يحدث، كان أبرزها تضارب الروايات حول استجابة المعلمين لدعوة النقابة للإضراب، ففي اليوم الأول من الإضراب، خرجت "الرأي" بعنوان على صدر صفحتها الأولى "فشل إضراب المعلمين"، وفي اليوم ذاته، خرجت "السبيل"، بعنوان على صدر صفحتها الأولى أيضا "التزام واسع بإضراب المعلمين".
لقد بدت بعض الصحف، بالتحديد في اليوم الأول للإضراب، كما لو أنها تغطي إضرابين لا إضرابا واحدا، وكان هذا واضحا في الأرقام التي أوردتها بعض التغطيات لنسبة التزام المعلمين في المناطق المختلفة في المملكة بالإضراب، ففي ذلك اليوم، نقل تقرير عن نقيب المعلمين قوله إن الإضراب كان "ناجحا 100% ومميزا في مدارس المملكة كافة"، لكن مديري مديريات تربية في المفرق والشوبك وسحاب وعجلون والرصيفة ، صرحوا أنه لا إضراب نهائيا في مناطقهم، أو أن الإضراب لم تتجاوز نسبته 5 أو 10 في المئة.
وقد لوحظ في تغطية اليوم الأول أن الأرقام استخدمت دون ضوابط، إذ كانت تُذكر النسب من دون ذكر أعداد المعلمين، والمضربين منهم، فلم يكن يُعرف من أين جاءت النسب، لهذا ظهر التضارب في بعض الأرقام بين مصادر الوزارة والنقابة، ففي حين يذكر تقرير نقلا عن مصدر في النقابة أن نسبة الإضراب في محافظة المفرق 90%، يذكر مدير قصبة المفرق في تقرير آخر، أن أحدا من المعلمين لم يضرب.
ورغم أن تغطية الأيام اللاحقة للإضراب شهدت استخداما أكبر للأرقام، وذُكر في بعض التغطيات أعداد المدارس، والمعلمين، ولكن إطلاق الأرقام دون توضيح كيفية احتسابها ظل السمة الغالبة على مجمل التغطية، إضافة إلى أن تضاربها كان ما يزال واردا، ففي تقرير يُنسب إلى مصدر نقابي أن نسبة الإضراب في العقبة بلغت 90%، ينسب تقرير آخر إلى مصدر وزاري، في اليوم نفسه، أن نسبة الإضراب في المدينة هي 40%. وفي حين يذكر مصدر نقابي أن نسبة الإضراب في الرصيفة هي 90%، يذكر مدير تربيتها أن "معظم مدارس اللواء التزمت بالدوام الرسمي"، وفي تقرير آخر، يذكر الناطق باسم النقابة أن نسبة الإضراب في أول أيام دوام الطلبة تراوحت بين 80 و85% لمدارس الذكور، و50 و55% لمدارس الإناث، لكن الناطق باسم وزارة التربية، يقول في التقرير ذاته إن نسبة الإضراب في المدارس هي 38%. وسنجد أن العديد من الأرقام المتضاربة موجودة في التقرير الواحد، في مثال واضح على الاستقبال السلبي للبيانات، وتصديرها كما هي للجمهور، دون معالجتها صحفيا.
وإضافة إلى تضارب بعض الأرقام بين النقابة والوزارة، فإن ما أعاق تكوين صورة واضحة لاستجابة المعلمين للإضراب، هو استخدام العبارات الفضفاضة، التي لا تقول شيئا محددا، ومن أمثلتها في تغطية اليوم الأول لدوام الطلبة: "انتظمت مدارس بشكل كامل (...) بينما شهدت مدارس إضرابا جزئيا"، و"توقفت عدة مدارس للذكور"، و"في الزرقاء امتنع العديد من المعلمين في مدارسها عن الدخول إلى الغرف الصفية"، وغيرها الكثير من العبارات غير المحددة، التي كان يستعاض بها عن الأرقام. وهذا يجعل من الصعب على قارئ تابع تغطية صحيفة واحدة، أو حتى أكثر من صحيفة، أن يكون صورة واضحة لالتزام المعلمين بالإضراب، فقد كان هناك في "الدستور" و"الرأي"، اللتين خصّصتا الجزء الأعظم من تغطيتهما لوجهة النظر المعارضة للإضراب، كان هناك تهوين من شأن الالتزام به، وفي المقابل، قدّمت "السبيل" تغطية صوّرت الإضراب يكتسح المدارس في المملكة، وبينهما كانت "الغد" و"العرب اليوم" أكثر توازنا.
وفي السياق نفسه، نجد أن تقديم الحدث نفسه بصورتين مختلفتين، في بعض الصحف، ينطبق أيضا على تغطية المواقف المجتمعية من الإضراب، ومنها على سبيل المثال، موقف أولياء الأمور، الذين نجدهم في تغطيات غاضبين، وينظمون أنفسهم في مواجهة إضراب المعلمين، ويرفعون قضايا على نقابة المعلمين، لكننا لا نجد هذا الرصد في تغطيات "السبيل" مثلا.
[1] التقرير السادس، هو "عسكريون متقاعدون يثمنون التوجيهات الملكية بتفعيل وزارة الدفاع"، "الرأي"، 14/8/2014، غير منشور على الموقع الإلكتروني.
[2] التقرير منقول عن "بترا"، الدستور، 17/8/2014، غير منشور على الموقع الإلكتروني.
[3] التقرير منقول عن بترا، الدستور، 16/8/2014، غير منشور على الموقع الإلكتروني.
[4] "الدستور"، 23/8/2014، غير منشور على الموقع الإلكتروني.
[5] يمكن مقارنة تغطية "الدستور" بتغطية "الغد" للبيان، لرؤية ما حذف من البيان الأصلي.
[6] "مجلس النواب يصوت على التعديلات الدستورية مساء الأحد المقبل"، "السبيل"، 20/8/2014، غير منشور على الموقع الإلكتروني.
[7] المصدر السابق.
[8] لم تغطها العرب اليوم في نسختها المطبوعة، إذ عُقدت الجلسة يوم خميس، والصحيفة لا تصدر مطبوعة يومي الجمعة والسبت.
[9] "الغد"، "مجلس الأعيان يقر مشروع التعديلات الدستورية كما ورد من النواب"، 29/8/2014 غير منشور على الموقع الإلكتروني.
[10] المصدر السابق.
[11] "الغد"، 2/8/2014، نُشر في النسخة المطبوعة، باختلافات طفيفة عن النسخة الإلكترونية.
[12] "الغد"، 27/8/2014، غير متاح على الموقع الإلكتروني.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني