أكيد – وصفي الخشمان
غاب التوازن عن معالجات صحافية للجدل الدائر حول المادة 308 من قانون العقوبات الأردني، ومالت كفة ميزان تلك المعالجات إلى صالح الرأي المناهض لوجود هذه المادة على حساب الرأي المؤيد للإبقاء عليها.
ويحاجج مناهضو المادة المذكورة بقولهم إن وجودها لا يتسق مع التزامات المملكة باتفاقيات حقوق الإنسان والمرأة والطفل، وهي محاججة وجدت آذاناً صاغية في الوسط الصحافي، الذي لم يعر اهتماماً كافياً لرأي المؤيدين القائل إن وجودها "ضرر أصغر لدرء ضرر أكبر"، متذرعين بـ "خصوصية المجتمع الأردني، وعدم تقبله للمرأة الضحية أو للأم العزباء أو الطفل مجهول النسب".
وألغى مجلس الأمة بغرفتيه الأعيان والنواب يومي الثلاثاء والأربعاء المادة 308 من مشروع قانون معدل لقانون العقوبات، منهياً جدلاً استمر سنوات بين مناهضين لوجودها ومؤيدين للإبقاء عليها.
وتنص المادة الملغاة على وقف ملاحقة أو تعليق تنفيذ العقاب عن مرتكب جنايات أو جنح ذات طبيعة جنسية إذا ما تزوج من ضحيته، باشتراط استمرار الزواج (عدم الطلاق دون سبب مشروع) لمدد لا تقل عن ثلاث سنوات في حال الجنحة، وخمس سنوات في حال الجناية.
ولم تُجز المادة الملغاة استعمال الأسباب المخففة إذا كان المجنى عليه لم يكمل الثامنة عشرة من عمره، وكان الجاني قد أتم سن الرشد القانوني.
واشتعلت جذوة الجدل حول المادة 308 في العشرية الأولى من الألفية، وواصلت اشتعالها منذاك عبر تصريحات وتصريحات مضادة، ولم تقنع تعديلات أجريت على المادة الجهات المناوئة، قبل أن تصدر اللجنة الملكية لتطوير القضاء في نهاية شهر شباط (فبراير) الماضي توصية بالإلغاء التام للمادة، ليتبعها بعد نحو شهرين قرار مجلس الوزراء القاضي بإلغاء المادة 308 ضمن مشروع قانون معدل لقانون العقوبات لسنة 2017.
وكثفت جهات وشخصيات رافضة للإبقاء على المادة 308 خلال الأسابيع الماضية نشاطها في تنظيم وقفات وندوات، وإصدار بيانات وتصريحات وجدت طريقها للنشر في وسائل إعلام، وهو ما قصرت في فعله جهات وشخصيات مؤيدة للمادة، بحسب ما أقر به معارضون ومؤيدون.
وفيما غلب على تغطيات وسائل إعلام تقليدية، بينها وسائل أجنبية، الانحياز لصالح رأي المناهضين لوجود المادة الملغاة، كانت ساحات منصات التفاعل الاجتماعية أقرب للتوازن؛ إذ عكست وجهتي النظر في الجدل الدائر داخل المجتمع الأردني، بحسب ما لاحظه مرصد مصداقية الإعلام الأردني (أكيد).
وتطرفت معالجات صحافية في تغطية موافقة مجلس النواب على إلغاء المادة مدار الجدل، عبر احتفائها بإلغاء "قانون اغتصب وتزوج ببلاش"، في استدعاء لشعار رفعه مناهضون لوجود المادة، يرى فيه مؤيدون تعميماً "مغلوطاً" يتغافل عن شمول المادة لفئات أخرى غير ضحايا الاغتصاب، بحسب رأي الدكتور نوفان العجارمة رئيس ديوان التشريع والرأي.
العجارمة فاجأ مؤيدي إلغاء المادة 308، بمنشورات عبر منصة تفاعل اجتماعي وتصريحات تؤيد التعديل الذي أجرته اللجنة القانونية في مجلس النواب، لتتوارى تصريحاته عن الظهور في صحف يومية، لكنها وجدت مكاناً في مواقع إخبارية.
وفي وقت عجت فيه وسائل إعلام بمقالات مناهضة للإبقاء على المادة المذكورة، خلت صحف من مقالات يعارض كاتبوها إلغاء المادة، فيما ظهر بعض تلك الآراء المعارضة في مواقع إخبارية.
وقبيل يوم من عرض مشروع قانون العقوبات المعدل، عمدت صحف إلى تجاهل تصريحات الدكتور مصطفى الخصاونة رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب التي تحدث فيها عن أن "تعديل المادة 308 ينتصر لحقوق المرأة"، على الرغم من بثه عبر وكالة الأنباء الأردنية (بترا).
وفي مقابل معالجات صحافية عرضت وجهتي نظر المؤيدين والمعارضين للإبقاء على المادة 308، وإن مال ميزانها أحياناً لصالح طرف دون آخر، أغفلت معالجات صحافية أخرى الرأي الآخر تماماً، عبر الميل إلى جانب المؤيدين لبقاء المادة المذكورة، أو الداعين لإلغائها.
احتفاء صبيحة الإلغاء
اهتمت صحف يومية صادرة يوم الأربعاء بموافقة مجلس النواب على إلغاء المادة 308 من مشروع القانون المعدل لقانون العقوبات لسنة 2017، وأبرزته في صدر صفحاتها إلى جانب مناقشات المجلس للمواد الأخرى في القانون.
وميزت صحيفة الدستور إلغاء المادة 308 في صدر صفحتها الأولى بمكان بارز، وفردت الصفحة الرابعة لمجريات جلسة مجلس النواب.
وقدمت الصحيفة مادة وصفية لمجريات الجلسة، ووازنت بين رأي رئيس الحكومة المؤيد لإلغاء المادة المذكورة، ورأي رئيس اللجنة القانونية في المجلس المطالب بتعديلها.
وكان حال صحيفة السبيل مشابهاً للدستور، حيث أبرزت إلغاء المادة في صفحتها الأولى، كما خصصت الصفحة الثالثة كاملة تقريباً لعرض مجريات الجلسة، إضافة إلى تقديم مادة وصفية لما جرى خلال مناقشة المادة الملغاة.
أما صحيفة الرأي، فاحتلت مناقشات مجلس النواب لقانون العقوبات الصفحة الثالثة كاملة، مع التركيز على إلغاء المادة 308، في حين خصصت لها مساحة متوسطة في الصفحة الأولى.
وفي حين رصد التقرير الرئيس للصحيفة دراماتيكياً جلسة مجلس النواب، وعرض باختصار مداخلات مؤيدين ومعارضين لإلغاء المادة 308، لاحظ (أكيد) انحياز تقرير مساند إلى وجهة نظر واحدة، مع ورود عبارات حكمية دون نسبتها إلى مصادر.
أما صحيفة الغد، فواصلت معارضتها الواضحة للمادة 308، والتي ظهرت من خلال ما تنشره منذ سنوات من تغطيات صحافية، أو فرد مساحة لبيانات منظمات مجتمع مدني، أو عرض رسوم كاريكاتورية، أو إصرارها على إرفاق رسوم تعبيرية منفرة من فحوى المادة الملغاة.
وتميزت الصحيفة بتغطيتها لإلغاء المادة 308؛ إذ احتلت النصف العلوي للصفحة الأولى كاملاً، مع تجنب ذكر المواد القانونية الأخرى التي ناقشتها الجلسة.
وفي الصفحتين الرابعة والخامسة عرضت الصحيفة مداولات الجلسة، وأجرت متابعات لها مع أصحاب اختصاص.
وحظي إلغاء المادة 308 باهتمام في الصحيفة، حيث عرض التقرير الرئيس ما دار من "هرج ومرج" خلال الجلسة، ووازن بين رأي مؤيدين لإلغاء المادة ومعارضين له.
ونشرت الصحيفة متابعة غلبت عليها وجهة نظر واحدة، وغابت عنها وجهة النظر الأخرى.
ولاحظ مرصد (أكيد) جنوح المتابعة المشار إليها، إلى جانب معالجات صحافية أخرى، إلى تجاهل ما تقره مراحل عملية التشريع في الأردن، عبر اعتبار موافقة مجلس النواب على إلغاء المادة 308 هو "إلغاء تام"، دون التريث وانتظار موافقة مجلس الأعيان التي تسبق مصادقة جلالة الملك.
ولاحظ (أكيد) كذلك أن صحفاً سارعت إلى نشر خبر استقالة رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب الدكتور مصطفى الخصاونة وأعضاء آخرين احتجاجاً على رفض المجلس للتعديلات التي أجرتها اللجنة على المادة 308، في حين كانت صحف أخرى حذرة في تأكيد الاستقالة، قبل أن ينفيها الخصاونة لاحقاً.
الرأي الآخر: نحن نعاني
وقال الخبير القانوني عبد الله أبو زيد إنه عانى قبل أن يقبل موقعان إخباريان نشر مقال له يعارض فيه إلغاء المادة 308.
واتهم ابو زيد، وهو خبير في المؤسسات العقابية، وضابط سابق في القضاء الشرطي، وسائل الإعلام بالرضوخ لاشتراطات منظمات حقوقية من خلال التلميع لرأي أو التعتيم على رأي آخر، "من ينادي برأي مخالف يعادى ويقاطع، ما يجبر كثيرين على السير مع التيار"، بحسب أبو زيد.
وضرب أمثلة على تناقض ما تنادي به منظمات حقوقية علناً وما تمارسه في الخفاء من تزويج لبعض القاصرات خشية على حياتهن.
وتابع أن الإغلبية الصامتة مؤيدة للإبقاء على المادة 308، لكنها تفتقد الأدوات الإعلامية القادرة على إبراز رأيها.
واتهمت الدكتورة إسراء الطوالبة أخصائية الطب الشرعي في عيادات إدارة حماية الأسرة وسائل إعلام بـ "تغييب من يتحدث بصوت العقل، ومحاباة جهات معينة"، قائلة إن هناك "تطرفاً في بعض التغطيات الصحافية مرده إلى تلاعب الممولين الخارجيين بمنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام"، بحسب تعبيرها.
ودعت الطوالبة الصحافيين إلى الحرص على التوازن والسماح للطرفين المتجادلين بطرح وجهة نظر كل منهما وتقديمها إلى الجمهور ليصار إليه الحكم.
واعتبرت الطوالبة، وهي أول طبيبة متخصصة في الطب الشرعي في الأردن، أن المشرع وضع المادة 308 لـ "غايات حفظ اجتماعية وليست للردع القانوني"، منبهة إلى أن معظم الحالات المستفيدة من المادة المذكورة تنتمي لطبقة متدنية اقتصادياً وثقافياً.
وزادت أن أية علاقة لفتاة بشاب في هذه الطبقة تؤثر سلباً على أسرتها كاملة، كما أن المشكلة تتشعب في حال الحمل وإنجاب طفل من هذه العلاقة، وبالتالي فإن الزواج يمثل "ضرراً أصغرلدرء ضرر أكبر".
وتابعت: الضرر الأكبر يتمثل في حبس شاب قد يكون في مقتبل عمره، ووصمة العار التي تلاحق الفتاة، إذا لم تقتل، وأسرتها، وإضافة طفل كرقم جديد لمجهولي النسب مع ما يعنيه ذلك من إعدام مجتمعي له.
إقرار بالتحيز
ولم تنكر الصحافية المتخصصة في حقوق الإنسان والمرأة والطفل نادين النمري انحيازها إلى الرأي المطالب بإلغاء المادة 308، "فهذا الرأي تكون لدي نتيجة خبرة ومعايشة للحالات المتضررة من وجود هذه المادة (..) ففكرة زواج مغتصبة من مغتصبها مرفوضة ولا يمكن أن أتسامح معها".
وأضافت النمري: "في القضايا الحقوقية، من الصعب عليك كصحافي أن تكون محايداً، وأنا لا أخجل من ذلك (..) حقوق الإنسان لا تتجزأ"، مشيرة إلى أن التزامها بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، يدفعها إلى تأييد إلغاء المادة 308 التي تتعارض مع تلك المعايير ومع الاتفاقيات التي وقع عليها الأردن بما فيها اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
بيد أن النمري قالت إنها تحاول إدراج وجهات نظر المؤيدين والمعارضين، إذا ما توفر الرأيان كلاهما، إلا أن ما يحدث هو "قوة حجة" المطالبين بإلغاء المادة، مقابل اعتماد المعارضين للإلغاء على "كيل التهم" للطرف الآخر بتلقي تمويل أجنبي، دون تقديم أدلة تثبت وجهة نظرهم، والاكتفاء بالحديث عن "خصوصية المجتمع الأردني" التي باتت "اسطوانة مشروخة".
وتساءلت: في مقابل عشرات الحشود والمؤتمرات والبيانات التي نظمتها وأصدرتها الجهات المناوئة للمادة 308، هل أصدر الطرف المؤيد بياناً أو نظم حشداً أو مؤتمراً حتى ندرج رأيه في تغطيات صحافية؟
وحول رأيها في غياب رأي نوفان العجارمة رئيس ديوان التشريع والرأي عن تغطيات صحافية، ردت النمري بأن تصريح العجارمة أُغفل لأنه كان متناقضاً مع تصريحات رئيس الحكومة ودائرة الإفتاء العام ودائرة قاضي القضاة، وتساءلت: هل ديوان التشريع والرأي منفصل عن الحكومة؟
مثل النمري، أقرت الصحافية المتخصصة في شؤون المرأة والطفل وحقوق الإنسان سمر حدادين بتحيزها "التلقائي" لمعارضي المادة 308، لقناعتها ومناصرتها لحقوق الإنسان، على الرغم من حرصها على إدراج آراء مؤيدي المادة الملغاة متى تسنى لها ذلك.
واعترفت بوجود "خلل في الحياد" لدى وسائل الإعلام إزاء هذه القضية، "فالمكان المناسب لرأي الصحافي هو المقال وليس التغطيات الصحافية"، بحسب قول حدادين التي جددت تأكيدها على أن إيمانها بعدالة قضية المرأة يدفعها لمساندة وجهة النظر المطالبة بإلغاء المادة.
وفسرت حدادين خفوت أصوات هؤلاء المؤيدين في وسائل الإعلام بـ "عدم نشاطهم" مقارنة بمخالفيهم، "فمعارضو المادة كانوا أكثر تنظيماً مقابل المؤيدين (..) هؤلاء كانوا مطمئنين إلى عدم موافقة مجلس النواب على الإلغاء".
ولفتت إلى أنها تواصلت مع قضاة معروفين بموقفهم المتحفظ على إلغاء المادة المذكورة، "لكن البيروقراطية السائدة في السلك القضائي وعدم قدرتهم على التصريح للصحافة كان عائقاً (..) والتصريح المأخوذ على لسان مصدر مجهول يضعف المادة الصحافية".
واتفقت حدادين مع من رأى بأن وسائل التواصل الاجتماعي كانت أكثر تعبيراً عن الجدل الدائر حول المادة 308 من وسائل الإعلام التقليدية.
وألمحت حدادين إلى وجود ضغط من منظمات مجتمع مدني، بهدف تغييب الرأي المعارض لها، فـ"المجتمع المدني لا يتقبل وجهة النظر المغايرة له (..) هو مثل الحكومة يحب أن يكون رأيه هو السائد".
وتابعت: عندما نشرت تقريراً بعنوان: وجه آخر لإلغاء (308 عقوبات)، قوبل بعدم رضا وعدم استحسان من منظمات مجتمع مدني، "لدرجة إنهم كرهوني وكانوا رح ياكلوني"، بحسب تعبيرها.
الاغتصاب.. الأرقام الموثقة غائبة
وتزخر الشبكة العنكبوتية بإحصائيات تتحدث عن حالات الاغتصاب في الأردن، وتخلط بعضها بين الاغتصاب وهتك العرض. وأشارت احصائية لإدارة المعلومات الجنائية صادرة في العام 2015 إلى تسجيل 591 حادث اغتصاب خلال أربع سنوات، في حين تحدثت إحصائية أخرى منشورة في صحف عن تسجيل 225 قضية اغتصاب في العام 2012.
كما تشير إحصائيات لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى تسجيل 110 حالات اغتصاب لأطفال (ذكور وإناث) في العام 2006، بنسبة 1.9 لكل 100 ألف من السكان.
وتواصل (أكيد) مع وزارة العدل للحصول على إحصائية موثقة تبين عدد حالات الاغتصاب في المملكة بحسب سجلات القضايا المحكوم بها قطعياً، دون أن يتسن الحصول عليها لساعة إعداد هذا التقرير.
تقول الدكتورة إسراء الطوالبة أخصائية الطب الشرعي في عيادات إدارة حماية الأسرة إن عدد القضايا التي يصدر بها حكم قضائي قطعي هو الرقم الصحيح لعدد حالات الاغتصاب، مضيفة أن كثيراً من الشكاوى المتعلقة بالاغتصاب يثبت كيديتها أو يثبت أنها لم تكن اغتصاباً بل علاقة بالتراضي.
ولفتت الطوالبة في حديث لـ "أكيد" إلى أن عدد حالات الاغتصاب بصورته النمطية المتشكلة في الوعي المجتمعي "قليل جداً"، في حين يبلغ عدد حالات هتك العرض أضعافاً مضاعفة.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني