يعرف من يتابع وسائل الإعلام المحلية أن أحد أبرز الاختلالات في أدائها المهني، هو أنها في معظم ما تنشره، ليست أكثر من مستقبل سلبي للرواية الرسمية، فمعظم محتواها الإخباري، هو بيانات صحفية أصدرتها الوزارات والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، ونُشرتها هذه الوسائل كما وردت إليها، من دون تحقق من صدق المعلومات، ولا استقصاء لروايات الأطراف الأخرى للقضية موضوع الخبر.
يوم 15 أيار (مايو) 2016، قدّمت صحيفة "الغد"، نموذجا لما يكون عليه الحال عندما تقرر وسيلة إعلام أن تذهب إلى ما وراء الرواية الرسمية، التي كانت هنا رواية وزارة العمل المتعلقة بـ"إنجازات" الحملات الوطنية للتشغيل، التي قالت الوزارة إنها وفرت فرص عمل لعشرات آلاف الأردنيين، لكن تحقيق "الغد" يكشف اختلالات عميقة في احتساب الأرقام المعلنة.
فكرة الحملات الوطنية للتشغيل هي أن تستقبل وزارة العمل طلبات كلّ من: الشركات الراغبة بتعيين موظفين، وطالبي العمل، ثم "تشبك" بين الطرفين. وقد أطلقت الوزارة ابتداء من كانون الثاني (يناير) 2013 إلى منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أربع حملات من هذا النوع، دُشّنت بإقامة "معارض توظيف" جمعت فيها الوزارة الشركات مع طالبي العمل، وحظيت في كل مرة بتغطية إعلامية احتفالية، كان قوامها الأساسي بيانات صحفية كتبتها الوزارة نفسها، أو تغطيات صحفية كانت الوزارة هي الصوت الأوحد فيها.
تقرير "الغد" الذي ناقش مصداقية "ضخامة" الرقم الذي أعلنته وزارة العمل، أشار إلى رقم هو في الحقيقة أقل مما كانت وزارة العمل قد أعلنته، فقد قال التقرير إن الوزارة أعلنت تشغيل 26 ألف باحث عن عمل، خلال حملاتها الأربع، في حين أن وزير العمل، نضال القطامين، كان أعلن في تصريح، نُشر في كانون الأول (ديسمبر) 2014، أن الوزارة تمكنت، خلال الفترة من بداية العام 2013 إلى نوفمبر 2014 [كانت حملة التشغيل الثالثة ما زالت مستمرة] من تشغيل 65 ألف عاطل عن العمل. وهو رقم ارتفع بعدها بشهر تقريبا، عندما صرّح الأمين العام للوزارة، حمادة أبو نجمة، بأن الرقم هو 69 ألف شخص تقريبا.
في حين ذكر تقرير أخير، نُشر في آذار (مارس) 2016، أن عدد المستفيدين من حملة التشغيل الرابعة هو 26 ألف شخص تقريبا. وذكر التقرير نفسه أن إجمالي عدد المستفيدين من حملات التشغيل الأربع هو 119 ألف شخص تقريبا.
الصحفية في "الغد"، رانيا الصرايرة، حصلت على قائمة بأسماء 76 شخصا، وردت في كشوفات وزارة العمل، بوصفهم ممن حصلوا على فرص عمل عبر الحملات الوطنية للتشغيل. ووفق التقرير، فإنه عند الاتصال بهم، فإن 33 من هواتف هؤلاء كانت إما مغلقة أو مفصولة، أو ليست للأشخاص المذكورين في القائمة.
ووفق التقرير، فإن من بين الـ43 شخصا ممن أجابوا على الاتصال، كان هناك 16 تركوا العمل في مدد تراوحت بين يومين و45 يوما.
أما المفاجأة التي كشفها تقرير "الغد"، فهي أن 28 من الـ43 شخصا، الذين قالت قائمة وزارة العمل إنهم عملوا عن طريق حملاتها، قالوا للصحيفة إنهم "لم يسمعوا بهذه الحملة ولم يشتغلوا عن طريقها"، وإنهم حصلوا على وظائفهم عن طريق التقدم بـ"طلبات مباشرة لموقع العمل، أو عن طريق علاقات شخصية ومعارف وأقرباء".
الصحيفة التي شكّكت بالأرقام التي أعلنتها وزارة العمل، نسبت إلى "مصدر مطلع" أن وزارة العمل، عند إنجاز بعض الإجراءات الخاصة بالشركات، تطلب في العادة من هذه الشركات تزويدها بكشوفات لأسماء الأردنيين العاملين فيها للتأكد من التزامها بتشغيل النسبة المقررة، ووفق مصدر الصحيفة، فإن الوزارة "تضيف هذه الكشوفات إلى قائمة العاملين ضمن الحملة الوطنية للتشغيل، وهذا يفسّر عدم معرفة الباحثين عن عمل بهذه الحملة".
وتنسب الصحيفة إلى المصدر ذاته أن السبب الآخر الذي يفسّر ارتفاع أرقام التشغيل التي تعلنها الوزارة، يعود إلى أن الكثيرين من الذين يحصلون فعلا على فرص عمل من خلال حملات التشغيل، يتركون العمل بعد فترات وجيزة، بسبب "عدم توفر شروط العمل اللائق" في المؤسسات التي عملوا فيها. وهذا يجعل هذه المؤسسات تعاود التواصل مع الوزارة لطلب آخرين، وما يحدث، وفق المصدر، هو أن الوزارة "تعيد احتساب فرص العمل المكررة، ما يعني أن فرصة العمل الواحدة قد تحسب ست أو سبع مرات".
يعرض تقرير الصحيفة ردّ وزارة العمل، فينسب إلى الناطق الإعلامي للوزارة، محمد الخطيب، أن الوزارة "تبذل جهودا جبارة للتشبيك بين صاحب العمل والعامل، وأن من حقها أن تقول إنها أمنت هذا العدد من الوظائف، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع إجبار الموظف على الاستمرار في عمله". ويضيف التقرير على لسان الخطيب: "نحن لسنا رقباء وينتهي دورنا بتأمين فرصة العمل".
لكن التقرير لا يتضمّن ردّ الوزارة على الاتهام المتعلق بإضافة أسماء أشخاص إلى قوائم تشغيل الحملات الوطنية، بوصفهم حصلوا على وظائفهم من خلال الوزارة، من دون أن يكون هذا صحيحا. وبعد يومين من نشر الصحيفة تحقيقها، فإن وزارة العمل لم تقدم أي توضيحات بهذا الخصوص.
التقرير السابق هو نموذج على ممارسة مهنية تقع في صلب دور الإعلام المتمثل في استقصاء الحقائق وتقديمها للجمهور، لا العمل أداة "بروباغندا" للسلطة.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني