وسائل الإعلام.. من تثقيف الناس إلى بيعهم السلع

وسائل الإعلام.. من تثقيف الناس إلى بيعهم السلع

  • 2016-01-30
  • 12

دلال سلامه "تقدم سلسلة مطاعم "تشيلي هاوس" في جميع فروعها وجبتها الإيطالية المميزة "بيتزا برغر" (...) وتتكون من لحم البرغر الشهي مع الببروني، جبنة موزاريلا، صلصة المارينا، الفلفل الأخضر، البصل المشوي والفطر، مع إضافات "تشيلي هاوس" الشهية". لا يمكن لمن يقرأ السطور السابقة، أن يشك للحظة في كونها جزءا من إعلان، لكنها ليست في الحقيقة كذلك، بل هي مقتبسة من "خبر"، ورد في صفحة "أخبار الشركات"، ضمن قسم الأخبار الاقتصادية في صحيفة يومية، ونُشر ضمن القالب الصحفي نفسه، الذي تنشر فيه الصحيفة باقي أخبارها، فسُبق باسم الصحيفة، واستُخدمت فيه لغة الخبر الصحفي، ونوع الخط، وتصميم العنوان، المطابقة لأسلوب نشر الأخبار في الصحيفة، بحيث أن قارئا عاديا، لن يميّز أن هذا إعلانا، وليس خبرا بالمعني المهني للخبر الصحفي. ما سبق هو نموذج لممارسة شائعة في الإعلام المحلي، هي نشر مواد إعلانية، تروّج لسلع أو خدمات، تبيعها شركات ربحية خاصة، لكن هذه المواد الإعلانية لا تأخذ الشكل التقليدي للإعلانات، المتميزة بلغتها ومضمونها وإخراجها الفني عن الأخبار الصحفية، بل تأخذ شكل ولغة هذه الأخبار، وأسلوبها في عرض الحقائق والاقتباسات، وموضعة العناوين، والصور المرافقة، من دون أن تشير وسيلة الإعلام، إلى أن هذه "الأخبار" هي في الحقيقة "إعلانات". تُنشر هذه الأخبار في العادة في صفحات محددة شبه يومية، ضمن أقسام الأخبار الاقتصادية في الصحف، فإضافة إلى "أخبار الشركات" في "الدستور"، هناك "شركات وأعمال" في صحيفة "الغد"، و"نادي الأعمال" في صحيفة "الرأي". وسنجد هذه النوعية من الأخبار أيضا، بين الفينة والأخرى، في صحيفة "السبيل". كما نجدها أيضا في مواقع إخبارية. مع ملاحظة أن "الدستور" والمواقع الإلكترونية، تنشر هذه "الأخبار" مسبوقة باسمها، في حين أن "الغد" تنشرها مسبوقة بـ"عمان"، أما "الرأي"، فتتنشرها غير مسبوقة بشيء. وتروّج هذه "الأخبار الإعلانية" لكل أنواع السلع والخدمات، التي تروّج لها في العادة الإعلانات التقليدية، مثل السيارات، والفنادق، والبنوك، والساعات، والهواتف، والمولات، والمستشفيات، وشركات مواد البناء، والمقاهي، وأجهزة التلفاز، والقهوة، والملابس، والمطاعم، وغيرها. إنها ببساطة "أخبار" توّجه المستهلكين إلى سلع تبدأ من سائل لغسل الأطباق، وتصل إلى مستشفى يجري عمليات قلب. إن "التضليل" في نشر "الأخبار الإعلانية" لا يقف فقط عند نشرها على هيئة الأخبار الصحفية، من دون تنبيه القرّاء إلى أنها إعلانات، بل يمتد إلى حقيقة أن وسائل الإعلام التي نشرتها تعاملها معاملة الأخبار، فهي مثلها تحتل مكانها في أرشيف هذه الوسائل، فتخرج بالتالي إلى القارئ الذي يجري أي عملية بحث على الإنترنت، تتعلق بكلمات مفتاحية تتضمنها هذه "الأخبار". كما أن هذه الإعلانات "المبطنة"، تظهر للقارئ على صفحات المواقع الإلكترونية الإخبارية، والمواقع الإلكترونية للصحف، بأسلوب العرض نفسه، الذي تُعرض وفقه الأخبار الصحفية. بل إن صحيفة "الرأي"، التي تذيّل موادها الصحفية، على موقعها الإلكتروني بتحذير يمنع النقل والاقتباس من دون إذن خطي، وذلك حفاظا على حقوق الملكية الفكرية، تذيّل هذا النوع من المواد بالتحذير ذاته. كما أن صحيفة "الغد"، وهي الصحيفة الوحيدة التي تقدم للقرّاء خدمة الأخبار "ذات الصلة" ملحقة بأخبارها المنشورة على الموقع الإلكتروني، سنجد أنه في أحيان كثيرة، تكون الروابط التي تعرضها الصحيفة بوصفها أخبارا ذات صلة بخبر إعلاني، هي خليط من أخبار إعلانية، وأخبار صحفية. والعكس صحيح، فتكون الأخبار ذات الصلة على خبر صحفي، خليطا من أخبار إعلانية وأخرى صحفية. وفي وقت يعرف العاملون في الوسط الصحفي، حقيقة هذه الأخبار، فإن البعض قد يراهن على "تمرّس" القارئ، الذي قد يرسخ في ذهنه بمرور الوقت أن الأخبار المنشورة في هذه الصفحات حصرا، هي أخبار إعلانية، فيميّزها عن غيرها، حتى لو لم تنبهه وسيلة الإعلام صراحة إلى ذلك. لكن هذا ليس دقيقا، ببساطة،لأنه لا هوية محددة للأخبار المنشورة في هذه الصفحات، بمعنى أنه في وقت تكشف بعض"الأخبار" التي تروّج لسلعة ما، والمصاغة بلغة دعائية مباشرة، عن هويتها، فإن هذه الصفحات تضم، إضافة إليها، أخبارا، لا تختلف في مضمونها ورسالتها عن أي خبر صحفي مستقل آخر. على سبيل المثال، أخبار محاضرة ألقاها وزير الأوقاف، والشباب السابق، الدكتور محمد القضاة في جامعة جدارا، وحصول هيئة أجيال السلام على تمويل من اليونسيف، وتوقيع مذكرة تعاون بين صندوق الملك عبد الله للتنمية ومركز طلال أبو عزالة للمعرفة، وهي أخبار، لا تبدو،حتى بالنسبة للعاملين في الصحافة، مختلفة عن أي خبر تحريري، لكنها جميعها منشورة في صفحة "شركات وأعمال" في "الغد" إلى جانب "أخبار" أخرى، تروج لفساتين سهرة، وشركة مطبوعات، وساعة يد. وفي المقابل سنجد أن أخبارا تروّج مباشرة لسلع، تُنشر في بعض الوسائل في الصفحات الاقتصادية العادية، مثلا "خبر" عن سيارة لكزس يقول إنها تتميز "بالقوة المطلقة" و"الأداء السلس"، والسحب الذي أجراه البنك الأهلي على "فيلا العمر"، وإطلاق البنك العربي حملة فيزا الائتمانية، وجميعها بمضامين إعلانية واضحة، منشورة مع ذلك في صفحة "مال واستثمار" الاقتصادية في "الدستور"، إلى جانب أخبار عن تقرير للبنك الدولي عن زيادة القدرة التنافسية، والتوجه نحو استراتيجية وطنية لحقوق الملكية الفكرية، وتوزيع نشرات تعريفية بمؤسسة الضمان الاجتماعي. في الحقيقة، فإن ما تنشره وسيلة إعلام في هذه الصفحات المخصصة، ستننشر مثله تماما في صفحاتها الاقتصادية الأخرى، وهذا ينطبق أيضا على هذه الوسائل في ما بينها. لماذا "يموّه" المعلنون إعلاناتهم؟ نشر الإعلانات بطريقة تبدو معها كما لو أنها أخبارا، ليس اختراعا أردنيا، ففي اللغة الإنجليزية مصطلح يدل على الإعلانات المصممة لتبدو أمام المتلقي كما لو أنها أخبارا صحفية، هو (Advertorials)، وهي كلمة منحوتة من الكلمتين (Advertisements) أي الإعلانات، و(Editorial) وتعني المواد التحريرية أو الصحفية. وقد تطوّرت هذه الممارسة في بواكير القرن العشرين، لكن مصطلح (Advertorials) دخل القواميس في العام [1]1961، وظهر في الولايات المتحدة. وهو يشمل كل المنتجات الصحفية المدفوعة الأجر، التي تتضمن رسالة ترويجية، سواء كان هذا الترويج لسلعة تجارية، أو لحزب سياسي، أو لأشخاص ..إلخ. السؤال هو: لماذا يموّه المعلنون إعلاناتهم؟ تجيب على ذلك دراسة[2] بحثت في الطريقة التي يستجيب بها المتلقون للإعلانات بشكليها التقليدي وغير التقليدي. بحسب الدراسة، فإن المتلقين طوّروا آليتين مختلفتين لاستقبال، كل من الأخبار الصحفية والإعلانات؛ فهم يستقبلون الأخبار بثقة، في حين أنهم يستقبلون الإعلانات بتشكك. وهذا يعني أن تأثير الرسالة الموجهة إلى المتلقي يتحدد، بشكل أساسي، بالسياق الذي وردت فيه هذه الرسالة، فإذا تعرّف المتلقي في ذهنه على المادة التي يقرأها بوصفها إعلانا، فإن الرسالة التي تنطوي عليها هذه المادة لن يكون لها التأثير نفسه، في ما لو تعرّف عليها بوصفها خبرا. إن الأمر كما تلخّصه دراسة أخرى[3] يتعلق بـ"فلتر"، يشغله القارئ تلقائيا في مواجهة الإعلانات، لأنه يعرف أن وراءها منتِجا يريد بيع سلعته وزيادة أرباحه، وهو يعرف أنه ليحقق هذا الهدف، فإنه سيبالغ في وصف فعالية هذه السلعة، لكن المتلقي ذاته، لا يتخذ هذا الموقف الناقد والمتشكك من المواد الصحفية، التي ينظر إليها بوصفها منتجا "موضوعيا"، يتمتع في نظره بمصداقية، لا تتمتع بها الإعلانات. هذا التشكك، هو ما يجعل الإعلانات، بشكلها التقليدي المباشر تعاني من انخفاض الاهتمام بها، بل ويمكن لها أن تستدعي ردّة فعل عكسية، وتخلق لدى المتلقي موقفا غير ما هو مرجو.[4] ولهذا كلّه، فإن قرّاء الإعلانات التي صُمّمت لتبدو أخبارا صحفية، يتذكرون، بشكل أفضل، المنتج التي روّجت له هذه "الأخبار"، وهم أكثر قابلية للقيام بمبادرة بشأن هذا المنتج.[5] لننظر إلى هذه النصائح التي يقدمها لكتّاب هذه النوعية من الأخبار الإعلانية، موقع متخصص في إدارة الحملات الترويجية، فهو يؤكد لهؤلاء أن هذه "الإعلانات" تُكتب لتبدو كما لو أنها "مواد صحفية مستقلة"، وأنه من أجل "المحافظة على هذا المظهر من النزاهة، فإن عليك، بكل ما يمكنك، تجنّب تقديم تقرير يظهر بوضوح أنه إعلان"، ومن ذلك مثلا أن تكتب وسيلة الإعلام أعلى النص أنه "مادة إعلانية"، إذ يشدد الموقع على أن التقرير سيكون "فعالا أكثر إذا لم يدرك الناس أنه مادة مدفوعة الثمن". إذن فإن الأمر كلّه ينطوي على "خدعة"، تتمثل في إيهام القارئ أن ما يقرأه ليس إعلانا، بل خبرا، هو نتاج عمل مهني لوسيلة إعلام، يعرف القارئ أن دورها هو تثقيفه لا بيعه سلعة، وهي في وعيه وسيط محايد منزه عن المصالح الذاتية. وما يفعله المعلنون هو أنهم يسثمرون هذا الرصيد لترويج سلعهم. وينص قانون المطبوعات والنشر الأردني[6] صراحة على أنه "إذا نشرت أي مطبوعة تحقيقات صحفية أو أخبارا تعود لأي جهة مقابل أجر، فيترتب على المطبوعة الإشارة فيها بصورة واضحة وصريحة إلى أنها إعلان". وأشار ميثاق الشرف لنقابة الصحفيين الأردنيين إلى الأمر، عندما نبّه إلى "عدم نشر معلومات (...) تستهدف أغراضا دعائية"[7]. وأيضا، عندما أشار إلى أنه "لا يجوز الخلط بين المادة الإعلانية والمادة التحريرية"[8]. كما ألزم الميثاق وسيلة الإعلام بـ"أن يتمّ النص صراحة على المادة الإعلانية (سواء التحريرية أو غيرها) بأنها إعلان".[9] [1] Encyclopedia of JOURNALISM, Christopher H. Sterling, 2009, 26 [2] When Is Advertising Advertising? Comparing Responses to Non-Traditional and Traditional Advertising Media, Micael Dahlen and Mats Edenius, 2007. [3] Advertorials – from print to digital media, Anders Schaumann, 2011. [4] When Is Advertising Advertising? Comparing Responses to Non-Traditional and Traditional Advertising Media, Micael Dahlen and Mats Edenius, 2007. [5] Encyclopedia of JOURNALISM, Christopher H. Sterling, 2009, 26 [6] لسنة 1998، المادة 30، الفقرة ب قانون المطبوعات والنشر [7] ميثاق الشرف الصحفي، نقابة الصحفيين الأردنيين، المادة 9، الفقرة أ [8] المصدر السابق، المادة 17 [9] ميثاق الشرف الصحفي، نقابة الصحفيين الأردنيين، المادة 17، البند 4