دلال سلامه
تداولت وسائل إعلام، يوم (15/3/2016)، خبر توقف أعمال إنشاء مصنع للملابس في لواء بصيرا في محافظة الطفيلة، بسبب رفض الحكومة السماح للمستثمر بنقل معدات من مركز الشركة الأم، في مدينة الحسن الصناعية المؤهلة، في إربد، إلى المصنع في الطفيلة، انسجاما مع قانون الاستثمار، الذي يقصر امتياز الإعفاء الجمركي على المعدات المستخدمة داخل المناطق التنموية.[1]
المصنع المذكور هو فرع لشركة "Classic fashion"، المملوكة للمستثمر الهندي (Sanal Kumar)، ولها، إضافة إلى مركزها في إربد، فروع في الطفيلة والكرك وعجلون. وكانت وزارة العمل قد وقّعت معها مذكرة تفاهم لإنشاء مصنع في منطقة "رواث" في لواء بصيرا، في أيلول (سبتمبر) 2014، معلنة أنه سيوفر ما بين 900-1000 فرصة عمل للنساء في المنطقة.
الطريقة التي غُطّيت فيها هذه الواقعة هي مثال نموذجي على تغطية الأحداث كما لو أنها "جزر منعزلة"، أي تغطيتها من دون ربطها بالوقائع المتعلقة بها، التي كانت وسائل الإعلام نفسها قد غطّتها في مناسبات سابقة، وكانت استعادتها كفيلة بوضع الحدث في سياقه، ما يكفل في النهاية فهما حقيقيا له.
أول اختلال نجم عن عدم الربط بين الخبر الجديد وما نُشر من أخبار سابقة عن الموضوع هو حرمان القارئ من تتبع التسلسل الزمني لتطور الحدث، كان في هذه الحالة بالذات ضروريا، لأنه يكشف تناقضا مثيرا للتساؤل.
ويتمثّل هذا التناقض في أن التغطية الأخيرة المنشورة يوم (15/3/2016) ذكرت أن المصنع "كان من المتوقع الانتهاء من أعماله الإنشائية خلال تشرين الأول (أكتوبر) الماضي"، لكن تغطيات سابقة، نُشرت في تشرين الأول الماضي، تحدثت عن "بدء" الشركة العمل لإنشاء المشروع.
فقد ذكر خبر نُشر يوم (15/10/2015) أن الشركة المذكورة "بدأت" العمل لإنشاء فرعها الثاني في الطفيلة. وذكر خبر آخر يوم (22/10/2015) أن المستثمر الهندي "وضع (...) حجر الأساس" للمصنع. في حين قالت تغطية ثالثة، نُشرت يوم (26/10/2015)، إن الشركة المذكورة "باشرت" العمل في المشروع.
إضافة إلى ذلك، يكشف تتبع التغطيات اختلالا آخر في التسلسل الزمني للأخبار، فقد غطّى خبر نُشر يوم (29/9/2014) توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة العمل والشركة المذكورة. ونقل الخبر عن مدير مديرية العمل في محافظة الطفيلة، عاطف هريشات، أن "فترة إنشاء المصنع ستكون بين 6-8 أشهر (...) يُصار بعد ذلك إلى تنسيق التعيينات". وهو تصريح عنى أن المصنع كان من المقرر أن يكون جاهزا حول منتصف العام 2015، وهو موعد ذُكر صراحة في تغطية أخرى.
لكن ما حدث هو ظهور الأخبار المشار إليها، التي نُشرت في تشرين الأول 2015، وتحدّثت عن "المباشرة" في إنشاء المصنع. وهي أخبار أسهبت في سرد منافعه المتوقعة على المجتمع المحلي في المنطقة المصنفة واحدة من جيوب الفقر في المملكة، وطرحته بوصفه إنجازا لوزارة العمل، لكن من دون أن تذكّر الجمهور بالتصريحات السابقة لمسؤولي الوزارة، ومن دون أن تخبر هذا الجمهور لماذا لم تسر الأمور وفق الخطة المرسومة لها.
كيف يوجّه الخبر المعزول عن سياقه الفهم
كما في التغطيات السابقة التي تابعت إنشاء هذا المشروع، يسهب التقرير الحديث، الذي أعلن توقف إنشاء المصنع، في تعداد منافعه المرجوة على المجتمع المحلي، فبحسبه، كان مقررا له أن يوفر 1000 فرصة عمل للفتيات في المنطقة المصنفة أحد جيوب الفقر في المنطقة، وتصل نسبة البطالة فيها إلى 30%، تزيد بين الإناث. وتسهب التغطية في وصف "خيبة أمل" الأهالي نتيجة توقف العمل في المصنع، وتنقل عنهم "الآمال الكبيرة" التي عقدوها عليه، في تشغيل العاطلين عن العمل، وتحسين المستوى الاقتصادي، بخاصة في ظل ندرة استثمارات مشابهة في المنطقة. ويكرر التقرير في ثلاثة مواضع أن سبب توقف العمل هو "العقبة" المتمثلة برفض الحكومة السماح للمستثمر بنقل معدات معفاة من الجمارك، من موقع الشركة الأم الواقعة في مدينة الحسن الصناعية، وهي منطقة تنموية، تحظى بامتياز الإعفاء الجمركي، إلى الطفيلة، التي لا تتمتع بميزة مشابهة.
من الصعب على قارئ الخبر ألا يتعاطف مع الأهالي، الذين حُرموا في اللحظة الأخيرة من فرصة تنموية، انتظروها بـ"فرحة كبيرة"، وصوّرتها التغطيات الإعلامية، واحدة بعد أخرى، طاقة فرج لهذه المنطقة الفقيرة النائية. بل من الصعب على القارئ ألا يتّخذ موقفا انتقاديا من الحكومة التي تبدو كما لو أنها لا تتمتع بمرونة كافية لتشجيع الاستثمار. ويدعّم ذلك بتكرار الجزئية المتعلقة برفض طلب المستثمر السماح له بنقل معداته من مركز الشركة إلى فرعها، وهو طلب يبدو قليل الشأن، مقارنة بالمزايا الهائلة التي روّجت لها التغطيات الإعلامية لهذا المشروع، وبدا أن الحكومة على وشك أن تفوّتها على أهالي المنطقة.
إن ما يجعل رسالة كهذه تصل هو ما ذُكر، بداية هذا التقرير، من ناحية تغطية الأحداث من دون ربطها بالسياق الكلي الذي تتحرك فيه، والسياق الذي أغفل هنا، هو الامتيازات التي منحتها الحكومة أصلا لهذا المستثمر، وذكر هذا التقرير واحدا منها فقط، هو المتعلق بتغيير صفة استخدام الأرض من زراعي إلى تجاري.
في حين أن امتيازات أخرى أغفل التقرير ذكرها، وذكرتها تغطيات سابقة ، ومنها دفع الحكومة "نصف تكلفة الإنشاء" البالغة 3 ملايين دينار، إضافة إلى امتيازات لعامين تتمثل في "دفع نصف رواتب الموظفات" و"دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي"، و"25 دينارا بدل مواصلات لكل موظفة". وجميعها، كما هو واضح، معلومات خلفية أساسية، كان يمكن لربطها بالحدث الأخير، أن يقود الفهم في اتجاه آخر تماما.
الحقيقة أن ربط الأحداث ببعضها كان سيعيد إلى ذاكرة الجمهور مشهدا مماثلا للمشهد الحالي، فيوم (13/8/2015) نُشر خبر يتحدث هو أيضا عن "توقف بناء المصنع"، بسبب صفة استخدام الأرض السابقة الذكر. وتحدّث الخبر آنذاك عن الإشكالية المتمثلة بأن الأرض التي اختارها المستثمر لإقامة مصنعه عليها، والبالغة مساحتها 25 دونما، هي أرض زراعية، لا يجوز وفق القانون البناء على أكثر من 5% منها، لا تكفي، بحسب الخبر، لكامل المشروع.
ويومها، ذهبت التغطية، بالضبط في الاتجاه الذي ذهبت إليه التغطية الأخيرة، فأسهبت في نقل المنافع المترتبة على المشروع، فقالت إنه "يُعتبر حلما لأبناء المنطقة"، وسيوفر "1000 فرصة عمل لأبناء وبنات المنطقة، إضافة إلى انه سيدفع بعجلة التطور الاقتصادي والخدمي للواء بصيرا"، ونقلت دعوة لـ"الجميع إلى التكاتف لاستئناف بنائه من أجل توفير فرص عمل لأبناء اللواء وعدم حرمانهم إياه بأي شكل من الأشكال".
ولم يكن، إزاء هذا كله، للقارئ أن ينظر إلى مسألة تحويل 25 دونما من الأرض الزراعية إلى تجارية، إلا بوصفها تفصيلا بسيطا، مقارنة بما طرحته التغطية بوصفه الخلاص لأهالي المنطقة، بالضبط كما هو الحال الآن في مسألة نقل المعدات المعفاة من الجمارك خارج المنطقة التنموية.
[1] قانون الاستثمار رقم (30) لسنة (2014)، المادة (13)، الفقرة (أ).
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني