كيف ينحاز الإعلام؟.. تغطيات قصة "طبيب السُّمنة" نموذجا

كيف ينحاز الإعلام؟.. تغطيات قصة "طبيب السُّمنة" نموذجا

  • 2016-03-15
  • 12

دلال سلامه

تفاعلت وسائل إعلام، خلال الشهور الثلاثة الماضية، مع قضية طبيب أردني متخصص في جراحات السمنة، وُجهت إليه اتهامات بالتسبب في وفاة مرضى سعوديين. ورغم أن القضية أُحيلت منذ شهرين إلى النائب العام، وما تزال قيد التحقيق، إلا أن بعض وسائل الإعلام، ما زالت تخوض فيها، وتنشر تغطيات منحازة بقوة إلى جانب الطبيب. وهو انحياز لم يقف عند تغييب جوانب الأطراف الأخرى الأساسية في القصة، بل تعدى إلى توظيف اللغة والعناوين والصور، واستثمارها بقوة لدعم جانب طرف واحد على حساب الآخرين.

القضية بدأت مع نهاية (كانون الأول) ديسمبر الماضي، عندما بثّت قناة (MBC) السعودية حلقة، من برنامج "الثامنة" الذي يقدّمه داود الشريان، واستضاف أطباء وأقارب لمرضى قيل إنهم توفوا بعد عمليات "تكميم معدة" أجراها لهم الطبيب الأردني، محمد خريس. ووُجهت خلال البرنامج للطبيب اتهامات بالإهمال، ومخالفة البروتوكول الطبي. وهي اتهامات نفاها خريس، في اتصال هاتفي مع البرنامج.

بدأت وسائل الإعلام، بعد الحلقة، بنقل ردود الأفعال المحلية عليها، كان أولها بعد يومين من الحلقة، عندما هاجم المستشار السابق لوزير الصحة، الدكتور باسم الكسواني، البرنامج، ووصف الاتهامات بأنها "هجمة على السياحة العلاجية [في الأردن] من قبل فئة في دول الخليج من باب المنافسة غير الشريفة والحسد".

لكن الأخبار نقلت، بعد تصريح الكسواني بأيام قليلة، أن وزارة الصحة بدأت تحقيقا في هذه الاتهامات، ثم أعلنت الأخبار مطلع شباط (فبراير) الماضي أن "الصحة" أحالت القضية إلى النائب العام، ليتبعها بداية آذار (مارس) الجاري نبأ إصدار المجلس التأديبي في نقابة الأطباء قرارها بإيقاف الطبيب عن العمل، استنادا إلى المادة 53 من قانون النقابة، التي تخوّلها إيقاف الطبيب عن العمل إلى حين انتهاء محاكمته، إذا "رأى" المجلس "أسبابا كافية" لذلك.

يلاحظ من يتابع التغطية الإعلامية أن بعض التغطيات مارست، كما تقدم، انحيازا مكشوفا للطبيب، كان على ما يبدو ردّة فعل على الانحياز الذي اتّسمت به الحلقة التلفزيونية المذكورة، التي خصّصت للطبيب مساحة لعرض دفاعه أقلّ بكثير من المساحة التي خصّصتها لمن أدانوه.

الانحياز في بعض التغطيات المحلية انتقل بها من "الإخبار" إلى "الدعاية"، منها على سبيل المثال تغطيات نُشرت تحت عناوين: "قضية جراحة السمنة تتفاعل: مستشفى الشميساني يرد والدكتور خريس يفتح النار على وزارة الصحة"، و"خريس: قناة ام بي سي ضللت الشارع العربي للطعن بالسياحة العلاجية الأردنية"، و"التمياط خطط والشريان نفّذ.... تفاصيل مؤامرة mbc على الدكتور محمد خريس"، و"نقابة الأطباء تسقط في حربها الانتقامية مع طبيب السمنة.. وملفاتها أصبحت مكشوفة".

يلاحظ من يقرأ هذه التغطيات أنها استخدمت ما يكاد يكون جميع آليات الانحياز، فهي أولا، كما هو واضح في ما سبق، استخدمت عناوين منحازة، ضد جميع الأطراف باستثناء الطبيب، سواء تلك التي اتهمته، وهي القناة التلفزيونية، أو تلك التي اتخذت إجراءات قانونية بحقه، وهي وزارة الصحة، ونقابة الأطباء.

أيضا، افتقدت هذه التغطيات إلى التوازن في ما يتعلق بتمثيل الأطراف الأساسية للقصة، فهي اقتصرت على عرض القضية من زاوية نظر وحيدة، ولم يكن ممكنا في ظل غياب الأطراف الأخرى الأساسية، التحقق من مصداقية ما قيل، ومن ذلك مثلا، قول مدير المستشفى، الذي صدر قرار بإيقاف إجراء عمليات السمنة فيه، إن القرار مؤقت "لحين تصويب بعض الأمور البسيطة". فهل يمكن الاكتفاء بهذا التصريح لتعريف الجمهور بماهية الاختلالات التي قادت إلى قرار إيقاف هذا النوع من العمليات، واختزال ذلك بأنها "أمور بسيطة"، أم كان يجب السماع من غير صاحب مصلحة في التقليل من شأن المخالفات؟

وأثناء تركيزها على طرف واحد، نجد هذه التغطيات فتحت الباب واسعا أمام اتهامات للأطراف الغائبة، من دون منحها فرصة عرض دفاعها. ومن ذلك اتهام الطبيب لوزارة الصحة بـ"هجوم ممنهج" عليه "بصفة شخصية ومحاربة النجاح الذي حققه محليا وعربيا"، واتهام لنقابة الأطباء بأنها سكتت في السابق عن شكاوى على مستشفيات خاصة "حجزت الجثث واستغلت المرضى العرب ووقعت في أخطاء طبية قاتلة أودت بحياة أبرياء أو خلقت لهم تشوهات دائمة وقضت على مستقبلهم". وأن موقف النقابة إزاء هذا كان "إغلاق الملف ولم تتم محاسبة المتورطين أو فتح تحقيق وجرى لملمة القضية بادعاءات باطلة".

كما كان هناك اتهام آخر إلى الطبيب السعودي، الذي وجّه في الحلقة المذكورة انتقادات لأداء خريس،  فاتُهّم بأن انتقاداته هي ردّة فعل منه على رفض الطبيب الأردني إقامة شراكة عمل معه، كانت ستتيح له، بحسب التغطية، أن "يزيد من دخله ويعمل على تسويقه في الداخل والخارج". كما تضمنت تغطية أخرى اتهاما إلى القناة التلفزيونية بأن حلقتها كانت ممولة من مستشفيات وأطباء منافسين في السعودية.

إضافة إلى ما سبق، يتجلّى الانحياز أيضا في توظيف الصور، إذ أُرفقت معظم هذه التغطيات بصور كبيرة للطبيب، وإحدى التغطيات أُرفقت بـ14 صورة للطبيب وشهاداته ولدروع تقدير حصل عليها من مرضاه، ولتغريدات مؤيدة له. وأُرفقت تغطية أخرى  بـ11 صورة مشابهة.

وفي سياق الانحياز أيضا، استخدمت هذه التغطيات لغة منحازة بشدّة، أعلت من شأن طرف، وقللت، في المقابل، من شأن جميع الأطراف الأخرى، فنقرأ عبارات تصف الطبيب بأنه "عملاق جراحة الجهاز الهضمي ومعالجة أمراض السمنة"، و"من الأطباء المتمرسين و"أحد الأعمدة الرئيسة في نجاح السياحة العلاجية في الأردن". ونقرأ، في المقابل، وصف الأطراف الأخرى بـ"المهنية السطحية"، و"المغالطات وتضليل الرأي العام"، و"ممارساتها التي لا تليق بسمعة الطب والأطباء" . وهي مجرد أمثلة على أوصاف أُطلقت على الأطراف المختلفة، من دون أن تُنسب إلى أي مصدر، بل كانت "رأيا" لكاتب الخبر نفسه.

وهذا يقود إلى ملاحظة أخرى، هي أن استخدام هذا النوع من اللغة، جعل هذه التغطيات لا تكاد تختلف في شيء عن مواد صحفية نشرتها مواقع إلكترونية في القضية نفسها، وكانت في تصنيفها الفني أقرب لمواد الرأي، منها مثلا "د. محمد خريس.. إنجازاته تضيء فضاءات كل الأقطار وفي وطنه يحارب..!!"، و"قصة نقابة الأطباء مع طبيب السمنة.. وأسئلة تحتاج إلى إجابات من النقيب"، و"أسئلة في قضية طبيب معالجة السمنة"،  التي استخدمت النهج ذاته في اللغة التي تعلي وتهبط من شأن أطراف القصة.

في الحقيقة، فإن التغطيات المذكورة لم تتشارك مع مواد الرأي السابقة في اللغة وحدها، بل اشتركت معها في أحادية زاوية النظر المعروضة، والاتهامات المرسلة من دون استقصاء ردّ عليها، وأحيانا في استخدام العناوين المنحازة، وموضعة الصور. وهذا عنى أن المواد الصحفية المفترض أنها "إخبارية"، ومهمتها أن تقدم "حقائق"، لم تختلف في جوهرها عن مواد أخرى، تُصنّف في خانة "الرأي"، خصوصا إذا كانت مواد الرأي هذه ليست أكثر من "دعاية". ما يثبت أن الإخلال بمعيار الحياد في الإعلام، يضرب في العمق جوهر دور هذا الإعلام.

ويُضاف إلى ذلك، أن إخلال التغطية بمعيار الحياد يثير في أحيان كثيرة شكوك القرّاء في نزاهة الوسيلة نفسها، ومن ذلك تعليق تركه أحد القراء على واحدة من المواد الصحفية السابقة (ويُسجّل للموقع الإلكتروني أنه نشره)، القارئ وصف المادة الصحفية بأنها "إعلان مدفوع الأجر"، وأضاف "بالله عليكم ارتقوا بالإعلام شوية وبلاش تخبيص".