هكذا يسهم الإعلام في -تطبيع- علاقة الجمهور مع أخبار الفساد

هكذا يسهم الإعلام في -تطبيع- علاقة الجمهور مع أخبار الفساد

  • 2016-05-09
  • 12

يوم 17 آذار (مارس) 2015، أثناء جلسة نيابية لمناقشة استجواب قدّمه النائب محمود الخرابشة، يتعلّق بإجراءات إدارة ملف المشروع النووي الأردني، فجّر النائب مفاجأة، عندما قال إن رئيس هيئة الطاقة النووية، الدكتور خالد طوقان، عرض عليه أن يمنح وظائف لـ25 شخصا من عائلة الخرابشة، مقابل أن يتراجع عن الاستجواب.

وظهر النائب، الذي سبق أن قدّم استجوابا بخصوص المشروع نفسه، في أيار (مايو) 2013، في مقطع فيديو للجلسة، تناقلته مواقع إلكترونية ، ظهر يقول إن طوقان جاء إليه بعد استجوابه الأول، وقال له: "تعال يا زلمة شو بِدّك بهالشغلة؟ جيبلك عشرين [أو] خمس عشرين واحد خرابشة، واللّي بدّك ياه بيصير" (الدقيقة 18.40).

ولم يكن هذا الاتهام الوحيد الذي وجّهه الخرابشة لرئيس الهيئة، بل اتهمه أيضا بأنه عيّن أحد الخبراء مستشارا في الهيئة كـ"ثمن" لشهادة قدّمها الأخير يشيد فيها بإجراءات الهيئة المتعلقة بالمشروع النووي، وهي شهادة استخدمها رئيس الهيئة، كما يقول النائب، لتدعيم الموقف من المشروع النووي. ووصف النائب كل ذلك بأنه "قضية رشاوى وانحراف وفساد"، قائلا إن رئيس الهيئة يديرها "على طريقة مزرعة".   

 عقب الجلسة، تناقلت وسائل الإعلام على نطاق واسع اتهامات النائب، التي كرّرها بعدها في ندوة عقدها، يوم 21 آذار، مركز الشفافية الأردنية، فخرجت هذه الوسائل بعناوين منها: "الخرابشة: خالد طوقان يمارس التضليل على النواب.. وعرض علي تعيين 25 من عشيرتي مقابل صمتي"، و"النائب محمود الخرابشة طوقان عرض عليّ رشوة"، و"النائب الخرابشة يطلق سهامه على طوقان ويتهمه بتقديم رشوة له"، و"الخرابشة يضرب طوقان من تحت الحزام في أقوى استجواب نيابي حتى الآن"، و"اتهامات الخرابشة لرئيس "هيئة الطاقة" بممارسة إغراءات وظيفية".

وفي كل هذه التغطيات، لم تنقل وسائل الإعلام أي ردّ من رئيس هيئة الطاقة النووية على الاتهامات الواردة، كما لم تقل أيّ وسيلة إنها حاولت الحصول منه على ردّ ، إلى أن أعدّ تلفزيون "رؤيا"، يوم 22 آذار 2015، حلقة من برنامج "نبض البلد" خاصة بالمشروع النووي، أجرى خلالها اتصالا هاتفيا بطوقان، الذي وصف اتهام الخرابشة له بأنه "افتراء". وقال إنه لم يردّ على هذه الاتهامات في الجلسة حينها لأنه أراد أن يجيب فقط على "الأمور الفنية" ولم يرد "الدخول في أمور شخصية"، مضيفا أنه يحتفظ، مع ذلك، بحقه القانوني في مقاضاة النائب.

لكن النائب، كان مصرّا على أقواله، وأعاد التأكيد عليها في اتصال هاتفي، في الحلقة ذاتها.

رغم إصرار الطرفين، كلّ على موقفه، فإن وسائل الإعلام سكتت بعد الحلقة مباشرة عن الخوض في هذه القضية على خطورتها، فلم تتابع لتقدّم للجمهور أي نوع من الحسم بشأن اتهامات، هي ببساطة، إمّا صحيحة أو غير صحيحة، وفي الحالتين هناك إجراءات قانونية من المفترض اتّخاذها: إماّ في حقّ مطلق الاتهامات إن ثبت بطلانها، أو في حق مرتكب التجاوزات إن ثبت حدوثها، لكن بعد أكثر من سنة، فإن أي وسيلة إعلام لم تنقل حتى إن كانت أي جهة قد فتحت تحقيقا.

الإعلام يروّج اتهامات لا يتابعها

ليست الحالة المذكورة استثناء في أداء وسائل الإعلام، بخاصة المواقع الإلكترونية، إذ يمكن ضرب العديد من الأمثلة، خلال السنة الماضية، على حالات مشابهة، سمحت فيها وسائل الإعلام لنفسها بأن تُستخدم منصة لإطلاق اتهامات، لم تكلف نفسها عناء متابعتها.

ففي آذار (مارس) 2015، نشر موقع إخباري خبرا تحت عنوان "وزيرة التنمية تغض الطرف عن شبهات فساد بجمعية يرأسها نائب سابق"، جاء فيه أن نواب ومهتمين بالعمل العام اشتكوا إلى وزيرة التنمية الاجتماعية، ريم أبو حسان من "تجاوزات" في جمعية رعاية شؤون الحج" في مدينة الرصيفة، التي يقول الخبر إن رئيسها هو نائب سابق. وهذه التجاوزات، وفق الخبر، تتمثل في أن الجمعية "تعدت على أراضي الدولة واستغلت (19) دونم وتقوم بتأجيرها والاستفادة منها بعلم الوزيرة ومدير التنمية الاجتماعية في الرصيفة الذي خاطب الوزارة سابقا هو ومجموعة من نواب الرصيفة ولم تحرك الوزيرة ساكنا".

لم يتضمن الخبر السابق أي حقائق واضحة تدعم الاتهام، كما لم يُستقصَ ردّ وزيرة التنمية الاجتماعية التي وُجّه إليها اتهام شخصي بأنها "تغض الطرف عن شبهات فساد". وقد أثير هذا الاتهام ليوم واحد فقط، في موقع إخباري واحد. وبعد مرور أكثر من سنة على ذلك، فإن هذا الموقع لم يعد للخوض في هذه القضية، كما لم تفعل أي وسيلة إعلام أخرى.

وعلى المستوى النيابي، نقل موقع إخباري، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، عن النائب سليم البطاينة، تصريحا قال فيه إن اتفاقية حوسبة البيانات الصحية في المؤسسات الصحية في المملكة، المعروفة باتفاقية "حكيم"، والتي أبرمتها وزارة الصحة، مع شركة متخصصة،: "بدأت بفساد وستنتهي بفساد". ونقل الخبرالسابق عن النائب تأكيده امتلاكه لـ"وثائق".

لكن لا هذا الموقع، ولا أي وسيلة أخرى تابعت الاتهام السابق، فلم يستقص أحد من النائب ماهية الفساد الذي نبّه إليه، ولا إجراءاته اللاحقة بهذا الخصوص. باستثناء موقع نشر بعدها بعشرة أيام تقريبا مقالا للدكتور عمر العسوفي، علّق فيه على سكوت النائب بعد أن أطلق اتهامه، وذكُر أن النائب نفسه كان في منتصف العام 2014 قد أثار موضوع هذه الاتفاقية، ثم "اختفى". ويعلق الكاتب مخاطبا النائب "يبدو أنك تفتح الموضوع كلما صار بينك وبين الحكومة خلاف أو أردت منها طلب ما".

وفي كانون الثاني (يناير) 2016، ظهر النائب نضال الحياري في مقطع فيديو على "يوتيوب"  لجلسة نيابية، (الدقيقة 12.57) يرفع حقيبة ورقية، مطبوع عليها شعار شركة "لافارج" للأسمنت، ويقول وهو يشير إلى الحقيبة إن "شركة لافارج (...) جايبة أجندات للنواب ولبعض الزملاء منشان بس يتغاضوا عن الـ1880 دونم ....".

باقي كلام النائب ضاع في الجلبة التي حدثت بعد ذلك من قبل نواب رفعوا أصواتهم احتجاجا على كلامه، فلم يمكن تمييز ما قاله بوضوح، لكن مواقع إخبارية تداولت على نطاق واسع في اليوم نفسه خبرا نقلت فيه عن النائب اتهامه الشركة بـ"رشوة النواب"، وأنها وزّعت هدايا لـ"كي يتمّ التغاضي عمّا وصفها بملفات فساد مرتبطة فيها"، وأنها تريد من وراء ذلك "تغطية الفساد الذي تقوم به في مشاريعها وأراضيها"،  وأنها "تقدم هدايا للنواب لتمرير قضية أراضي تخص الشركة".

اكتفت وسائل الإعلام بتداول هذه الاتهامات، في اليوم نفسه الذي عُقدت فيه الجلسة، ثم صمتت عنها بعد ذلك، فكانت خاتمة القصة في اليوم نفسه، عندما اعتذر النائب من زملائه، وقال إنه قصد فقط التنبيه إلى أن هدايا الشركة هي "محاولة منها لاستمالة النواب بما يخدم مصالحها" ولم يقصد أنه يمكن استمالتهم فعلا.

وفي الأثناء، لم تستقص أي وسيلة إعلام ماهية "الفساد" الذي تحدث عنه النائب، ولا الحقائق التي بنى عليها اتهامه، ولم يخبر أحد الجمهور عمّا عناه بالـ"1880 دونم" التي أشار إليها، ولا استقصى أحد ما إذا ما إذا كان هذا النائب قد تابع بعد الجلسة أي نوع من الإجراءات القانونية في ما يتعلق بقضية، كان واضحا أنها محددة. 

وفي شباط (فبراير) 2016، نقل موقعان إلكترونيان عن النائب فواز الزعبي قوله إن شركة أنشأتها الحكومة لتطوير أراضي منطقة المفرق التنموية "دخلت في شراكات مشبوهة عبر اتفاقيات غير معلنة طيلة 4 سنوات"، وأن هذه الشركة "ضيعت على أهالي المفرق وعلى الخزينة ملايين الدنانير"، وأن صندوق مؤسسة الضمان الاجتماعي اتخذ قبل ثلاث سنوات قرارا "برفع رأس مال الشركة لتغطية الخسائر التي ترتبت عليها بسبب سوء الإدارة بقيمة 25 مليون دينار تحملها الشعب الأردني". كما نُقل عن النائب أن "شركات التطوير التي أنشئت مؤخرا كان الهدف الوحيد منها هو تسهيل الرشاوى وقضايا الفساد وتسهيل عقد الصفقات المشبوهة تحت الطاولة".

الاتهامات السابقة نُشرت ليوم واحد. والموقعان اللذان نشراها لم يعودا إليها، واكتفيا بنقلها كما وردت عن النائب، فلم لم يكن هناك استقصاء لما عناه بـ"الشراكات المشبوهة" و"الاتفاقيات غير المعلنة"، ولا ما هي شركات التطوير الأخرى التي سهّلت تلقي رشاوى، وعقدت صفقات مشبوهة، كما قال، ولا نوع هذه الصفقات، والأطراف التي عُقدت معها. كما أنه لم يكن هناك استقصاء لموقف مؤسسة الضمان الاجتماعي، الذي يُفهم من طرح النائب أنها شاركت في "التغطية" على خسائر سببها سوء الإدارة.

النائب السابق نفسه أطلق في آذار 2016 اتهاما آخر بالفساد، في حق وزير مالية سابق لم يسمّه. فنقلت وسائل الإعلام، على نطاق واسع، قوله، في مداخلة نيابية، إن هذا الوزير "ارتكب جرما بحق الوطن وكان يعطي الهبات لمن يريد"، وأنه نسّب بمنح أحد النواب (لم يسمّه أيضا) إعفاء ماليا بقيمة 90 ألف دينار.

وفق التغطيات، فقد أُجّل النقاش في اتهامات النائب لوزير المالية، بسبب غياب وزير المالية الحالي عن الجلسة، في حين طلب النائب مفلح الرحيمي تشكيل لجنة تحقيق في هذه الاتهامات، لكن أحدا لم يعد بعدها ليخبر الجمهور ما إذا كان مجلس النواب قد شكّل لجنة تحقيق، وما إذا كان وزير المالية الحالي قد ردّ على اتهامات النائب.

وفي نيسان (أبريل) 2016، نقلت مواقع إخبارية عن النائب زكريا الشيخ قوله، أثناء مداخلة نيابية إن هناك "ملفات فساد كبرى في المجلس الأعلى للمعوقين"، ونقل الخبر عن الشيخ أنه "اتهم قيادات في الصف الأول في المجلس الأعلى لشؤون المعوقين بالفساد واصفا هؤلاء بالمتنفذين". ويضيف الخير أن الشيخ طالب "بـضرورة محاسبة الفاسدين".

تداولت المواقع الخبر بالصيغة نفسها تقريبا، وهي صيغة اتّسمت بالاقتضاب والعمومية، والافتقار إلى أي حقائق واضحة. ورغم خطورة الاتهامات، إلا ان وسائل الإعلام لم تجر أي متابعات لها، كما لم تستقص أي ردّ عليها من الجهات المعنية، على رأسها المجلس الأعلى لرعاية الأشخاص المعوقين، الذي وُجّهت إلى قياداته اتهامات مباشرة بالفساد.

وفي الشهر نفسه، نقل موقع إلكتروني عن النائب هايل ودعان الدعجة، اتهامه لـ"نواب" لم يحدّدهم بـ"الوصول لمجلس النواب بالمال القذر". ولم ينقل الخبر بالغ الاقتضاب عن النائب أي معلومات محددة، بخصوص هذا الاتهام الخطير، كما لم يعد هذا الموقع أو أي وسيلة إعلام أخرى إلى الخوض فيه.

الإعلام يطبّع الجمهور على مظاهر الاختلال

ما سبق هو مجرد أمثلة، ومن يستقص سيجد المزيد والمزيد من الاتهامات بارتكاب تجاوزات خطيرة، وجّهتها أطراف لأطراف أخرى، واكتفى الإعلام بأن يكون مجرد منصّة لإطلاقها، من دون أن ينهض بدوره في متابعتها واستقصاء الحقائق المتعلقة بها. والأمر هنا بالطبع، لا يتعلق بحصانة النائب وحقه في التعبير تحت القبة، فنحن في هذا التقرير نتناول واجب وسائل الإعلام في متابعة ما يطرح، خصوصا أنها لا تتردد عن نشر ما قيل كما هو.

لا يذهب الإعلام إلى مطلقي هذه الاتهامات ويسألهم عن الحقائق التي بنوا على أساسها اتهاماتهم، التي تكون في الغالب مقتضبة، وعمومية ومفتقرة إلى معلومات محددة. ولا يذهب إلى الجهات التي طالتها هذه الاتهامات، ويستقصي ردّها عليها، كما أنه لا يذهب إلى الجهات الرقابية الرسمية ليسألها عن إجراءاتها القانونية في تهم علنية بالفساد طالت شخصيات أو مؤسسات رسمية.

ثم إن الإعلام لا يتابع، ومهما بلغت خطورة هذه الاتهامات، فإنه يكتفي بأن يكون مسرحا لتداولها لفترة لا تزيد في أحسن الأحوال عن بضعة أيام، ثم يصمت عنها تماما، بالضبط كما يصمت عنها مطلقوها.

اتهامات بالغة الخطورة، كالتي وردت في الأمثلة السابقة، تطيح في بلاد أخرى بمسؤولين وربما حكومات، ولا يمكن لإعلام يحتفظ بالحدّ الأدنى من الاحترام لجمهوره أن يمرّ عنها من دون حسم، لكن الإعلام المحلي يتعامل معها بوصفها مجرد أخبار "مثيرة" جاذبة للقرّاء، مثلها مثل حوادث السير العنيفة، أو الجرائم الغريبة، أو التغيرات المفاجئة على الطقس،  أو التصريحات "الطريفة" لرئيس الوزراء، وغيرها من أخبار تتصدر في العادة واجهات المواقع الإخبارية ليوم أو يومين، فتشغل المعلقين في أقسام التعليقات، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها في النهاية  تنزل إلى أسفل الشاشة، لتحلّ محلّها أخبار "مثيرة" أخرى.

في هذا النمط من التغطية، يتجاوز الخلل في أداء الإعلام عدم نهوضه بدوره الذي جوهره استقصاء الحقائق وتصديرها للجمهور، الخلل هنا يصبح "تطبيع" للجمهور على أخبار الفساد، يمارسه الإعلام من خلال وضع هذه الأخبار في سلة واحدة مع باقي الأخبار، ثم تركها تمرّ من دون إثارة أي نوع من النقاش العام المستمر، بالضبط كما يفعل مع كلّ الأخبار الأخرى.