يوم 24 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، نشرت صحف "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" و"الغد" بيانا صادرا عن نقابة المهندسين الأردنيين، "تحذّر" فيه من "أشخاص ينتحلون صفة مهندس"، فطالبت النقابة في البيان "المواطنين بتوخي الحذر ممن ينتحلون صفة مهندس من دون وجه حق، ويستعملون خلال انتحالهم وثائق صادرة عن جهات عديدة غير الجهة المخولة بمنح هذه الصفة"، مشيرة إلى المادة 90 من قانون النقابة، التي تنص على معاقبة المنتحلين بـ"الحبس لمدة شهر وبغرامة لا تقل عن 500 دينار"، تُضاعف لدى تكرار الانتحال.
قارئ غير مطلع، سيعتقد أن البيان الذي نشرته الصحف جميعها بالنص ذاته، ومن دون أي خلفية، أو تفسير، يتعلق بتجاوزات "جنائية"، ولن يخطر بباله أبدا أن المسألة تتعلق بخلافات نقابية، بين نقابتين هما "المهندسين" و"الجيولوجيين"، وهي خلافات استمرت أربعة أشهر، وخرجت إلى الملأ ثم صمت الكلام فيها، من دون أن يفهم الجمهور حيثياتها بدقة، أو يعرف ما انتهى إليه الأمر، إذ غطّتها الصحف على طريقة "التصريحات والتصريحات المضادة"، التي تبادلتها النقابتان، ونشرتها الصحف من دون أي تدخل بالتوضيح، ثم توقفت عن النشر في القضية، عندما توقفت النقابتان عن إصدار البيانات.
القصة بدأت يوم 13 آب (أغسطس) الماضي، عندما نشرت "الدستور" والسبيل" و"الغد" والموقع الإلكتروني لـ"العرب اليوم" بيانا عن نقابة الجيولوجيين، كشفت فيه نيتها تعديل قانونها، ومن بين التعديلات المقترحة، تغيير اسمها إلى "نقابة المهندسين الجيولوجيين"، لتمنح بذلك صفة "مهندس" لمنتسبيها، مبررة ذلك بأن خريجي الجيولوجيا يدرسون العدد نفسه من الساعات الدراسية، التي يدرسها خريجو تخصص الزراعة، الذين يحظون بلقب مهندس زراعي، وأن من حقهم بالتالي، الحصول على "العلاوات" التي يتقاضاها حاملو هذا اللقب.
يوم 17 آب، نشرت "الدستور" و"الرأي"، أن مجلس النقابة أقرّ فعلا هذا التعديل، لتنشر بعدها بيومين "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" و"الغد"، بيانا عن نقابة المهندسين، وصفت فيه التعديل الذي قامت به "الجيولوجيين" بأنه "مخالف للقانون"، وقالت إن نقابة المهندسين تضم بين منتسبيها مهندسين جيولوجيين، مطالبة بالتمييز بين"هندسة الجيولوجيا" و"علوم الجيولوجيا".
صمت الحديث في المسألة شهرين، ثم أثيرت من جديد، في مقابلتين أجرتهما "الدستور" و"الرأي"، مع نقيب "الجيولوجيين"، صخر النسور، حيث ذكر أن تعديل قانون النقابة، بما فيه تعديل الوصف الوظيفي، يسير الآن في قنواته الدستورية.
يوم 20 كانون الأول الماضي، نشرت "الدستور" و"الرأي" و"السبيل" و"الغد" بيانا، أُعلنت موافقة اتحاد الجيولوجيين العرب إضافة لقب "مهندس" لـ"الجيولوجي"، لتنشر الصحف، بعدها بأيام، بيان نقابة المهندسين، الذي حذّرت يه من "منتحلي" صفة مهندس، الذي ورد في بداية هذا التقرير، وعرف المطلّعون فقط أنه ردّ على قرار اتحاد الجيولوجيين العرب.
الخلل الأول في تغطية هذه القضية، هو أن الصحف لم تتابع حيثيات خلاف نقابي، وصل حدّ اتهام نقابة منتسبي نقابة أخرى بـ"انتحال الصفة"، فلم تستقص رواية كل طرف، وتزوّد الجمهور بالدوافع العميقة التي حرّكته، سواء كان توجه "الجيولوجيين" لتغيير وصفهم المهني، أو رفض نقابة المهندسين لذلك، وهذا يخل بمعياريّ الوضوح والتوازن.
والصحف أيضا، في مواجهة احتجاج نقابة المهندسين، بأن ما قامت به "الجيولوجيين" مخالف للقانون، ودفاع نقابة الجيولوجيين عمّا قالت إنه "حقها" في تغيير قانون مضي عليه 42 عاما، لم تستقص آراء جهة محايدة، تقدّم رؤية قانونية مستقلة، وهذا يخلّ بمعيار الشمولية والتكامل.
وعلاوة على ما جميع ما سبق، ففي هذه التغطية، عملت الصحف، كما هو واضح، منصة "سلبية" لاستقبال ونشر تصريحات وبيانات هذه الجهة أو تلك، من دون أن توظف هذه الروايات في مواد صحفية تجعلها مفهومة للجمهور، أي من دون أن تشرح ما هو غامض فيها، ومن دون أن توضح السياق الذي تتحرك فيه القضية، أو تربطها بخلفية، الأمر الذي أخلّ أيضا بمعيار الشمولية والتكامل، وجعل خبرا مثل خبر التحذير من "المنتحلين"، ورغم كل ما عليه من علامات استفهام، يمرّ بشكل عابر.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني