The Bad News About the News
روبرت ج. كايزر (Robert G. Kaiser)
في عام 1998، تعرّف رالف تيركويتز (Ralph Terkowitz)، نائب رئيس شركة "واشنطن بوست"، على سيرجي برين (Sergey Brin)، ولاري بيج (Larry Page)، وهما شابان من أصحاب المشاريع الريادية من سيليكون فالي، كانا يبحثان عن داعم لمشاريعهما. ويتذكر تيركويتز زيارته لهما في المرآب الذي كانا يعملان فيه، وقد ترك سيارته وسائقه في الخارج، أثناء اجتماعه معهما بخصوص الفكرة، التي تحولت في نهاية المطاف إلى "جوجل". ولو أن صحيفة "واشنطن بوست" استثمرت في "جوجل" في وقت مبكر لتحوّل وضعها المالي، الذي ساء للغاية، بعدها باثني عشر عاماً، في وقت أصبحت فيه "جوجل" شركة يقدّر رأس مالها بمليارات الدولارات، إلا أن هذا اللقاء لم يتمخض عن شيء. وقد علّق تيركويتز على ذلك قائلا: "لقد تدارسنا الموضوع"، لكن شركة واشنطن بوست، التي كانت ثرية في ذلك الوقت، استثمرت أموالها في مجالات أخرى".
لم يكن الوقوع في مثل هذه الزلات مفاجئاً، فعادة ما يعجز الأشخاص الذين يعيشون عهد التغيرات الثورية عن إدراك ما يجري حولهم. ولو قام أستاذ جامعي منصف بتقييم أداء شركات الصحف والقنوات الإخبارية الأميركية خلال المرحلة الأولى من العصر الرقمي لمنحها علامة "ج ناقص" أو أقل على أدائها السيئ في ذلك الوقت، عندما لم يكن بمقدور المؤسسات الكبرى التي كانت تسير بخطىً بطيئة، وهي تغوص في الطرق التقليدية لإدارة المشاريع، التنبؤ بدقة عن المراحل المقبلة للزوبعة التكنولوجية.
من الواضح أن وسائل التكنولوجيا الحديثة تعمل على تغيير سبل التعلم والتعليم والاتصال والترفيه لدينا جذريا، ومن المستحيل أن ندرك اليوم إلى أين قد تنتهي بنا هذه التغيرات، بالرغم من أن معرفة ذلك مهم بالنسبة إلينا إلى حد بعيد، فمعرفة إلى أين ستؤول الثورة الرقمية مهم بشكل خاص للصحافة، وبالتالي للولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن الصحافة هي الحرفة التي توفر شريان الحياة للمجتمع الحر والديمقراطي.
لقد أدرك آباؤنا الذين أسسوا الولايات المتحدة الأميركية هذا الأمر، إذ أنهم كانوا يؤمنون بأن تجربتهم في الحكم الذاتي تتطلب المشاركة الفعالة من قبل جمهور واع، وهو أمر لن يتحقق إلا من خلال وصول الناس إلى المعلومات بحرية. نذكر هنا أن جيمس ماديسون (James Madison)، مؤلف "التعديل الأول" على الدستور الأميركي الخاص بحرية التعبير وحرية الصحافة، أوجز هذه المسألة قائلاً: "إن الارتقاء بالمعرفة والعمل على نشرها هو الوصي الوحيد على الحرية الحقيقية". أما توماس جيفرسون (Thomas Jefferson)، فقد وضح لصديقه الفرنسي الماركيز دي لافاييت (Marquis de Lafayette) أنه: "لا يمكن تحقيق الأمن للجميع إلا من خلال صحافة حرة، حيث ليس بمقدور أحد إحباط قوة الرأي العام عند السماح بالتعبير عنه بحرية". كما يعتز الصحفيون الأميركيون بتصريح آخر لجيفرسون، هو أنه: "لو تُرك الأمر لي لأقرر ما إذا كان يجب أن تكون لنا حكومة بدون صحف أو صحف بدون حكومة، فلن أتردد لحظة في تفضيل الخيار الثاني".
وقد تجسدت الروح الصحفية التي أنعشت العديد من مؤسسي الدولة الأميركية في بنجامين فرانكلين (Benjamin Franklin)، وهو صاحب مطبعة، وكاتب صحفي، ومحرر من فيلادلفيا، إذ عملت المطبعة التي كانت مصدر رزقه بمثابة محرك دافع للديمقراطية الأميركية لأكثر من قرنين من الزمن، إلا أنه في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت تقنيات جديدة تقوّض الوسائل القديمة لتبادل المعلومات، بدءا من التلفاز ثم الحاسوب والإنترنت، وهي تقنيات غيّرت النمط الذي يتبعه الناس للحصول على الأخبار. بالرغم من ذلك، وحتى نهاية هذا القرن، بقيت المشاريع المتخصّصة في تقديم الأخبار والتحليلات مربحة بما فيه الكفاية، لدعم وكالات الأنباء الكبرى المختصة بوسائل الإعلام المطبوعة والمرئية والمسموعة، التي تضم مراسلين ومحررين ذوي الكفاءة والخبرة.
أما الآن، مع مضي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فقد أضعف التحول التكنولوجي المتسارع المشاريع التقليدية التي حافظت على النمط الشائع لوسائل الإعلام الأميركية، ما زاد من احتمال تدهور المؤسسات الصحفية الكبرى، التي طالما اعتمدنا عليها لاستقصاء ونشر الأخبار العالمية من حولنا.
الكلمات التي أخطّها هنا مؤلمة بالنسبة لشخص أمضى خمسين عاماً مراسلا ومحررا في صحيفة "واشنطن بوست". في السنوات الخمس عشرة الأولى من حياتي المهنية، كانت الأخبار ما زالت تطبع باستخدام أحرف مصنوعة من الرصاص من خلال أجهزة اللينوتايب، والتي لا نراها الآن إلا في المتاحف، ولم نبدأ باستخدام أجهزة الحاسوب للكتابة إلا في أواخر سبعينات القرن الماضي، الأمر الذي بدا جيداً بشكل لا لبس فيه، حتى ظهور الإنترنت في تسعينات ذلك القرن، ثم، تدريجياً، بدأت الأرض تتحرك تحت أقدامنا. وفي الوقت الذي تقاعدتُ فيه من الصحيفة، أي في مستهلّ هذا العام، كانت أسرة غراهام قد باعت الصحيفة لجيف بيزوس (Jeff Bezos)، مؤسس موقع "أمازون" الإلكتروني، مقابل 250 مليون دولار أميركي، وهو جزء صغير من قيمتها التي كانت عليها قبل بضع سنوات فقط. وقد اعترف دونالد غراهام (Donald Graham)، الرئيس التنفيذي للصحيفة آنذاك، بأنه لم يكن يعرف كيف يمكنه إنقاذ الصحيفة.
في الواقع، لقد حيّرت وسائل التكنولوجيا الرقمية منذ بداية ظهورها أصحاب وسائل الإعلام التقليدية، خاصة الصحف، على سبيل المثال، في عام 1983، أي في السنوات الأولى للإنتاج المحوسب للصحف، عندما لم يكن هناك أحد تقريباً يعرف ما هو آت، أقدمت صحيفة "نيويورك تايمز" على شبه انتحار رقمي، عندما قررت أنه لا ضرورة لأن تحتفظ بحقوق النسخ الإلكترونية لمقالاتها وقصصها الإخبارية إلا مدة 24 ساعة بعد النشر، ولجني بعض المال، باعت الصحيفة حقوق النشر الإلكتروني لجميع موادها، التي مضى عليها أكثر من 24 ساعة لشركة ميد داتا سنترال (Mead Data Central)، أصحاب خدمة ليكسيس نيكسيس (Lexis-Nexis)، التي باعت بدورها هذه الحقوق إلى الشركات القانونية، والمكتبات، وعامة الناس. وفي بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما أصبح الإنترنت فاعلاً ورائجاً بين الناس، تحوّل هذا الاتفاق إلى مشكلة كبيرة ومتفاقمة، إذ كانت الصحف، بما فيها "نيويورك تايمز"، تخطط لنشر طبعات خاصة على شبكة الإنترنت، إلا أن هذه الصحيفة كانت قد باعت حق التصرف بمنتجها الخاص لشركة "ميد داتا".
ومن حسن حظ الصحيفة الأفضل في البلاد، اشترت شركة ريد إلسفير (Reed Elsevier) البريطانية-الهولندية شركة "ميد داتا" عام 1994، وفُعّل بالتالي أحد نصوص العقد الأصلي، الذي كان مبرماً بين "نيويورك تايمز" و"ميد داتا"، وهو نصّ سمح للصحيفة باستعادة حقوق النشر الإلكترونية لقصصها الإخبارية، ومكّنها من نشر كتاباتها الصحفية على الإنترنت منذ عام 1995.
من جهة أخرى، فإن نشر الصحف على شبكة الإنترنت لم يساعدها على استعادة ولو القليل من ربحيتها، وحالياً، لا تحقق "نيويورك تايمز" إلا بعض الربح، كما أن عائداتها من الإعلانات ليست مطمئنة. وفيما حققت "واشنطن بوست" في أواخر التسعينات أرباحاً سنوية تجاوزت الـ120 مليون دولار أميركي، إلا أنها اليوم تخسر، فقد خسرت العام الماضي أكثر من 40 مليون دولار أميركي. أما مجلة "نيوزويك" فقد فشلت تماماً في الصمود أمام هذه التقلبات، في وقت تترنح فيه مجلة "تايم" في مكانها. إلا أن العديد من الصحف المحلية التي كانت تُعدّ في وقت من الأوقات قوية، ويشمل هذا صحفا تمتدّ من لوس أنجلوس إلى ميامي، ومن شيكاغو إلى فيلادلفيا، فقد وجدت نفسها في وضع حرج، وأصبحت استمراريتها موضع شك، في حين قُلّصت أقسام الأخبار في شبكات التلفاز الرئيسية، على مدى أكثر من عقدين من الزمن، ولم يتبقّ منها الآن ما يستحق الذكر.
لقراءة الموضوع كاملاً، الرجاء الضغط على الصورة أدناه
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني