تغطية قضية "البيع بالأجل".. الإعلام بين الترويج والغياب

تغطية قضية "البيع بالأجل".. الإعلام بين الترويج والغياب

  • 2015-06-13
  • 12

أكيد – دلال سلامة

قبل شهرين، عرضت قناة "رؤيا" الفضائية تقريرا مصورا عن ازدهار تجارة السيارات في منطقة البترا، وقد طرح التقرير هذه التجارة بوصفها البديل الاقتصادي الذي لجأ إليه السكان في هذه المنطقة السياحية، لمواجهة التراجع المستمر للحركة السياحية نتيجة الأوضاع السياسية المضطربة في الإقليم. ونقل عن سكان وتجار تأكيدهم الفائدة التي تحققت لأهل المنطقة من هذه التجارة التي استطاعت تأمين فرص عمل، والتعويض عن انحسار النشاط السياحي.

لم يتضمن التقرير، الذي بُثّ خلال النشرة الاقتصادية للقناة أي أرقام تصف هذا النمو، ولا المدة الزمنية التي تحقق فيها، والأهم هو أنه لم يقدّم تفسيرا لازدهار تجارة السيارات في هذه المنطقة النائية بالتحديد، ما جعلها، كما يقول "تنافس عمّان". لقد انشغل التقرير بـ"الترويج" الخالص لهذا النشاط، فلم يكن للجمهور الذي شاهده أن يتوقع أنه بعد عرضه بستة أسابيع، ستفجر هيئة مكافحة الفساد مفاجأة بإيقاع الحجز التحفظي على أموال كبار تجار سيارات في المنطقة، لارتباط تجارتهم، كما ذكر الناطق الإعلامي للحكومة، محمد المومني، بشبهة "غسيل أموال".

لاحقا، كشفت وسائل إعلام عن المعلومات التي كان قد أغفلها التقرير التلفزيوني، وفسّرت سرّ ازدهار هذه التجارة بأن هذا النشاط قائم بكامله على شراء السيارات بأعلى من قيمتها السوقية بنسبة تتراوح بين 30-40%، مقابل شيكات مستحقة السداد بعد أشهر، ومن ثمّ إعادة بيع هذه السيارات بأقل من قيمتها. وأحيانا يتم هذا البيع لصاحبها الأصلي نفسه، في الجلسة ذاتها التي تمّت فيها عملية الشراء، وهذا هو الدافع وراء استقطاب أعداد كبيرة من البائعين والمشترين.

لقد أغفل التقرير في غمرة تركيزه على "الترويج" لهذا النشاط، جميع المعلومات السابقة التي لم تكمن أهميتها فقط في أنها تمثل أركانا أساسية للقصة، لم يكن للفهم أن يستقيم بدونها، بل لأنها تكشف نظام إدارة مريب لهذه التجارة، يشكل كما نقلت "الغد" عن أستاذ الاقتصاد، الدكتور باسم أبو كركي "مخالفة لآلية عمل السوق"، وهي مخالفة، لم يقدم الإعلام، بعد أسبوعين من انشغاله بالقضية، تفسيرا حقيقيا لها.

لقد قدّم الإعلام تفسيرين محتملين: الأول؛ ما نُقل عن الحكومة، وهو أن الأمر مرتبط بشبهة "غسيل أموال"، لكنّ أحدا لم يشرح للجمهور كيف يعمل هذا النوع من التجارة كأداة لغسيل الأموال. أما الاحتمال الثاني، فهو أن هؤلاء التجار يجمعون المال من الناس، ويسددون ما يستحق من شيكات، من هذه الأموال ذاتها. لكنهم في مرحلة معينة سيعجزون عن السداد. لكن هنا أيضا، لم يفسر الإعلام للجمهور كيف استطاع هؤلاء التجار الوفاء بالتزاماتهم المالية طيلة أربع سنوات ذُكر أنها عمر هذا النشاط، إذ أوردت أغلب التغطيات أن الشيكات المؤجلة دفعت طيلة السنوات السابقة في مواعيدها، ولم تُسجل شكوى واحدة بحق أيّ من التجار.

الإعلام.. بين الترويج والغياب

لم يكن الإعلام قد انتبه بشكل حقيقي، إلى ما أطلق عليه هو نفسه وصف "ظاهرة" مستمرة من سنوات، إلى أن أوقع الحجز على أموال تجار السيارات في البترا قبل أسبوعين. فقد نشرت "الرأي"، قبل خمسة أسابيع من قرار الحجز على أموال التجار تقريرا تضمن ما يمكن عدّه إشارة مبكرة (نسبيا) إلى أن هناك ما يريب بشأن هذا النشاط. لكن هذه الإشارة العابرة، لم تلغ حقيقة أن التقرير بأكمله تورّط في الطرح الترويجي الذي تضمنه تقرير "رؤيا" السابق. فتقرير "الرأي" اقتصر على عرض تأكيدات تجار سيارات على ما حققته هذه التجارة من فائدة اقتصادية للمنطقة المتضررة من تراجع الحركة السياحية. بل ونقل عنهم أن الفائدة التي تحققت من تجارة السيارات عمّت شرائح أوسع من سكان المنطقة، بعكس السياحة التي كانت فائدتها "مقتصرة على فئات معينة". أما وجهة النظر السلبية الوحيدة التي عرضها التقرير فهي اعتراض أحد المصادر على اكتساح تجارة السيارات المشهد الاقتصادي في المنطقة، الأمر الذي انعكس على شكل إهمال لباقي القطاعات، لكن هذا المصدر، اتفق هو أيضا مع البقية، على الفائدة التي تحققت لسكان المنطقة من هذه التجارة.

أما الإشارة التي نبّهت إلى وجود ما يريب، فقد كانت عندما ذكر التقرير في فقرته الأخيرة "مخاوف" لدى سكان المنطقة "من أن يتعرض الاقتصاد المحلي للانهيار حال عدم وفاء تجار الأجل بالتزاماتهم"، لكن العبارة المقتبضة المبهمة التي خُتم بها التقرير، لم يتبعها توضيح للمقصود بتجارة الأجل، ولا قدّمت أي معلومة عن السبب الذي من أجله قد يعجز التجار عن الوفاء بالتزاماتهم. في وقت مرّر التقرير بشكل عابر في سياقه معلومة مهمة، هي أن السيارات تُباع بأعلى من قيمتها الحقيقية، لكن من دون أن يتوقف عندها. لهذا فإن الإشارة إلى مخاوف السكان لم تفلح في إلغاء الفكرة التي أكّد التقرير عليها على امتداده، والمتمثلة في إيجابية هذا النشاط.

الإعلام يتساءل مع الجمهور

بعد هذين التقريرين بشهر تقريبا، أي قبل ثلاثة أسابيع من الحجز على أموال التجار، بدأت وسائل إعلام بطرح التساؤلات عن هذه التجارة. مثلا، نقل "عمون" عن مواطنين في لواء البترا شكوكهم بخصوص تجار يشترون السيارات بأعلى من ثمنها ويبيعونها بخسارة، وتساؤلاتهم عن "الأموال الطائلة" التي يمتلكها هؤلاء التجار، الذين لم يكن وضعهم المالي بهذا الشكل قبل انخراطهم في هذا النشاط. ونقل موقع الحرة تساؤلات السكان عن هذه "الظاهرة الغريبة"، ونقلت "السبيل" عن رئيس مجلس مفوضي سلطة إقليم البترا، محمد النوافلة، قلقه من أن تكون "عصابة وهمية" وراء هذا النشاط.

وفي المحصلة، لم تتعد التغطية الإعلامية في هذه المرحلة، نقل تساؤلات السكان وشكوكهم حيال هذه التجارة، من دون استقصاء إجابات حكومية عن هذه التساؤلات. وتاليا عندما أُوقع الحجز التحفظي، فإن التغطيات، في المجمل، لم تستقص أيضا ردا حكوميا على الاتهامات التي وجّهها مواطنون ونواب للحكومة بأنها كانت على علم بأمر هذه التجارة، وأنها نُبّهت إليها، فظلت هذه الاتهامات من دون تأكيد حكومي أو نفي.

وما ساهم في تعميق حالة الضبابية، هو أن بعض وسائل الإعلام تداولت أخبارا مبهمة لم تقدم هذه الوسائل ما يثبت صحتها، فنُقل عن سكان أن عمليات البيع والشراء تتم من دون تنازلات رسمية، وأن "أحد الشخصيات الاعتبارية" يتعامل مع هؤلاء التجار. وأن نائبا باع سيارته مع نمرة مجلس النواب إلى أحد التجار، وأن الأموال التي تموّل هذه التجارة قادمة من ليبيا. لهذا بدت التغطية في بعض وسائل الإعلام، في هذه المرحلة، كما لو أنها مجرد نقل لأقاويل يتداولها السكان، لكن من دون استقصاء الحقيقة لدى الجهات المعنية.

وقادت التغطية الإعلامية الجمهور إلى مزيد من الضبابية، عندما صدّرت إليه وسائل الإعلام معلومات متضاربة في ما يتعلق بعمر هذه الظاهرة وحجمها. إذ لم تتفق التغطيات على عمر هذا النشاط، ففي الوقت الذي قالت فيه وسائل إعلام إنه بدأ منذ أربع سنوات، قالت أخرى إنه بدأ منذ ثلاث سنوات، وهناك من ذكر في التقرير نفسه أن عمرها أربع سنوات، ثم في موضع آخر منه ثلاث سنوات. في حين نقلت وسائل إعلام أن هذه التجارة بدأت قبل عامين، وأخيرا ذكرت وسائل أن عمر هذه التجارة هو عام إلى عام ونصف.

كما لم تتفق التغطيات على تقدير قيمة الأموال المستحقة بموجب شيكات على هؤلاء التجار، فقد نقل أن المبالغ المالية تُقدّر بـ"عشرات الآلاف"، وفي تغطيات أخرى ذُكر أنه من 60-70 مليون دينار، وفي ثالثة ذُكر مبلغ 200 مليون دينار، وفي كل التغطيات لم يُفسر أحد كيف قُدّرت هذه الأرقام. وفي كل هذا الزخم من المعلومات المتناقضة والناقصة لم يصل الجمهور- وبعضه متضرر أو مستفيد- إلى المعلومة الصحيحة والحقيقة الكامنة خلف مثل هذا النوع من التجارة.