تفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الكترونية، وشتى أوساط الرأي العام، بشكل كبير مع فيديو مجتزأ من برنامج كوميدي بعنوان "محطات مفروضة" مدته (23) دقيقة، بثته قناة "رؤيا" التلفزيونية قبل أسابيع، والحلقة موجودة على تطبيق (youtube) منذ تاريخ 12/8/2015.
الفقرة التي تم تناقلها ومدتها نحو ثلاث دقائق قدمت في قالب ساخر يشبه البرامج الموجهة للأطفال، عرضت فيه أجزاء من قصص مفترضة مليئة بالإشارات والإيحاءات الجنسية الواضحة، وهو ما تم تناقله على شبكات التواصل الاجتماعي مرفقاً بنقد شديد للقناة.
لتوضيح موقفها، أصدرت قناة رؤيا بياناً قالت فيه إن الفقرة هي جزء من "أحد البرامج الساخرة الكوميدية التي تقدمها القناة لجمهورها، ويهدف إلى انتقاد ما تفرضه بعض وسائل الإعلام من محتوى على مشاهديها". ثم قدمت القناة في البيان "اعتذارها عن أي سوء فهم أو ازعاج نتج عن مضمون البرنامج". القناة أوضحت إن البرنامج غير موجه للأطفال بل للكبار.
مرصد مصداقية الإعلام الأردني "أكيد"، تابع نشر الفيديو (الذي شُطب عن تطبيق (youtube)، وهو إجراء من صلاحية القناة صاحبة الفيديو الأصلي) كما رصد تفاعل القصة على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية التي تناولته بتوسع.
المحتوى الإعلامي غير الملائم
يصنف المحتوى الذي بثته قناة "رؤيا" في الفيديو الساخر ضمن ما يسمى في الأدبيات المهنية الإعلامية بالمحتوى غير الملائم، والذي عادة ما يشير الى محتوى غير ملائم موجه الى جمهور محدد أو محتوى تم بثه في وقت غير ملائم، أو أن يقدم المحتوى في ظروف سياسية أو اجتماعية قد تتيح الفرصة لتوظيف هذا المحتوى لأهداف ومصالح محددة. ولقد راعت الكثير من المبادئ الأخلاقية والقواعد المهنية، الفروقَ الثقافية بين المجتمعات في تحديد طبيعة المحتوى غير الملائم.
اتضح لـ"أكيد" أن برنامج "محطات مفروضة" الذي تبثه القناة، منقول عن برنامج بريطاني كان يبث في بداية السبعينات لمجموعة كوميدية بريطانية (مونتي بايثون) ، (The Pythons) وتكاد الفقرة تكون طبق الأصل عن الصيغة البريطانية، بل إن محتوى جزء منها يكاد يكون مترجم حرفياً، إلى جانب نقل بعض الحركات الأدائية لمقدمة الفقرة، مع فارق رئيس وحيد، يتمثل في جنس مقدم البرنامج، ففي النسخة البريطانية قام أحد الكوميديين الذكور بتقديمه، بينما قامت شابة بالعمل ذاته على قناة "رؤيا".
إن البرنامج البريطاني الذي قدمته فرقة (ذا بايثونز)، قدم وبُث لأول مرة في فترة نهاية الستينات ومطلع سبعينات القرن العشرين، وهي الفترة التي كانت فيها اوروبا ميداناً لتبدلات ثقافية كبرى لها سياقها الخاص بتلك المجتمعات، وهو ما يفرض الكثير من الحساسية والدقة في النقل إلى سياقات ثقافية واجتماعية أخرى. بل إن صنْف الكوميديا هذا، كان قد وصف في بلده وفي زمن لاحق بأنه "تجاوز حدود ما هو مقبول وقتها في الأسلوب والمضمون".
حيث شهدت أوروبا في ذلك الوقت حركة احتجاجات وتمرداً شبابياً كبيراً، بدأت في فرنسا وامتدت ثقافياً إلى مختلف دول أوروبا الغربية، وطالبت في بعض الحالات بتحرر ثقافي متطرف، وانعكس هذا التيار في المجال العام، وفي الثقافة، وفي المحتوى الإعلامي، وفي الانتاج التلفزيوني، وحتى في الفنون والغناء، ولكن هذا التيار لم يدم طويلا وواجه نقداً ثقافياً في المقابل، وينصح "أكيد" بالعودة الى العديد من الابحاث الغربية التي قدمت نقداً لاذعاً لثقافة الصورة والانتاج التلفزيوني في السبعينيات من القرن الماضي، ومنها سلسلة بحوث "مدرسة \\ جلاسكو".
إن الأخطاء الإعلامية المهنية والأخلاقية، ذات الصلة بالمحتوى غير الملائم تقع باستمرار في وسائل الإعلام، وأحيانا كثيرة يكون مصدرها عدم قدرة الوسيلة على إدراك الخصائص الثقافية للمجتمع وعدم تقدير الحساسية الثقافية للجمهور، ويحصل أحيانا أخرى عندما لا تتعلم الوسيلة من أخطائها.
الحملة المضادة
أثار نشر الفيديو نقاشاً واسعاً تناول الحق في بث مثل هذا المحتوى من الزاوية الاجتماعية الأخلاقية، وشن ناشطون حملات ضد القناة، ومنها صفحات خاصة وعدد من الوسوم ( الهاشتغ) حتى أن صفحة خاصة على الفيسبوك أنشئت تحت عنوان: "الحملة المليونية لإلغاء قناة رؤيا" حصلت على 12 ألف معجب خلال أول 15 ساعة، وعلى الرغم من أن القناة قامت بحذف الفيديو من موقع "اليوتيوب"، إلا أن صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي، ومواقع الكترونية، قامت بإعادة نشره ووصلت مشاهدته نحو 250 ألف مشاهدة حتى منتصف نهار اليوم الثاني من الحملة، وتبادل المواطنون نكاتاً صيغت على الفور، وصوراً مركبة حول الموضوع، وأعلن عن عدة حملات ضد القناة، ولم يوقف تلك الحملات التوضيحُ الذي قدمته القناة.
مساء الثلاثاء بثت قناة "رؤيا" حلقة من برنامجها "نبض البلد" وخصصته لتداعيات القصة، وهي خطوة انطوت على جرأة، فقد عرضت المواقف القاسية التي تعرضت لها القناة طيلة ذلك اليوم، كما استضافت أحد النواب الناقدين لموقف القناة، وقد دافع عن العريضة التي وقعها النواب ضد القناة، إلى جانب صحافيَّيْن أحدهما تبنى موقف القناة والآخر اتخذ موقفاً معتدلاً.
لقد قادت هذه التداعيات الى تشكيل رأي عام مضاد للقناة على الرغم من وجود أصوات تبرر ما قامت به. إن "أكيد"، وبعد مراجعته لكل هذه التداعيات ومن منطلق المسؤولية المهنية والأخلاقية يرى أن قناة "رؤيا" وقعت في خطأ مهني تقع فيه وسائل الإعلام وهو خطأ المحتوى الإعلامي غير الملائم، ولكن هذا الخطأ لا يصل حد تجريم القناة أو محاكمتها اجتماعيا بالشكل الذي يجري حالياً على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الالكترونية، الأمر الذي قد يسجل سابقة لتخويف وسائل الإعلام، والحد من الحريات الإعلامية.
النقاش العام
وفي حين أعلن عن رفع دعوى حق عام ضد القناة، فإن المحامي محمد قطيشات قال في اتصال مع مرصد "أكيد" أنه لا يرى مخالفة قانونية فيما بثته القناة، وأن الهدف لم يكن توصيل الإيحاءات الجنسية بل نقد سوك إعلامي، وأضاف إن أسلوب السخرية والتهكم هو أحد أشكال التعبير المعترف بها.
الباحث المختص بالشؤون التربوية حسني عايش، قال لـ"أكيد" إن على الإعلام أن يكون حساساً في الاقتراب من القضايا التي تتعلق بالمسائل الجنسية، ولا يجوز نقل أفكار ومواقف من سياق ثقافي معين، بما ذلك السياق الغربي، إلى ثقافة أخرى، والأصح أن يجري تكييف وتطويع الأفكار بما يتوافق مع الثقافة المستقبلة.
المخرج والخبير التلفزيوني عدنان الرمحي أوضح لـ"أكيد" بعد مشاهدة الفيديو، أن المادة المعروضة لا تنطبق عليها مواصفات النقد أو عرض "السيء" بهدف نقده، وانه ينبغي التحلي بالكثير من الحساسية فيما يتصل بالمحتوى الكوميدي، وأن ما هو جيد ومقبول في مجتمع، ليس بالضرورة أن يقبل في مجتمع آخر، ولفت إلى أن مجتمعاتنا تعد غير متجانسة، وهو ما يعني أن المحتوى الإعلامي موجه إلى فئات متنوعة، وينبغي أخذ ذلك بالاعتبار.
سلسة من الاختلالات
الخطأ المهني الذي وقعت فيه "رؤيا" ببث محتوى غير ملائم، قاد الى سلسة من الأخطاء والاختلالات المهنية والاخلاقية في أداء بعض المواقع الالكترونية وفي الخطاب المجتمعي الذي انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي.
أولاً: في مجال الشكل:
1- لم تتحرّ المواقع الالكترونية، ولا مواقع التواصل الاجتماعي، الدقة في نشر الفيديو، فقد نشرته على أساس أن الفقرة موجهة للأطفال وليس من خلال برنامج كوميدي للكبار، أي أن الفقرة أُخرجت من سياقها الأصلي، ووضعت في إطار منفرد كبرنامج للأطفال.
2- إن قيام القناة بالاعتذار العلني يحسب لها كممارسة مهنية صحيحة، ولكنها كانت بحاجة الى المزيد من الوضوح.
3- لم يكن البعد النقدي الذي أشارت إليه القناة في بيانها، واضحاً في المادة المبثوثة، فقد عرضتها في إطار يهدف إلى الجاذبية، أو على الأقل الكوميديا الصرف الهادفة للإضحاك، من دون أية إشارة نقدية.
4- أصبحت مواد شبكات التواصل الاجتماعي مرجعاً بلا تدقيق لكثير من وسائل الإعلام التي تناولت القضية. ومع الإقرار بضرورة الانتباه إلى ما ينشر على مواقع التواصل، إلا أن على الصحافة المحترفة المهنية أن لا تعيد انتاج تلك المواد، الا في حالات خاصة، بعد أن تخضعها لمعاييرها. لقد كان على وسائل الإعلام أن تتصدى لبعض التطرف الذي ساد في نقاشات التواصل الاجتماعي، والذي دفع النقاش نحو أبعاد شخصية أو طائفية وأن تبقي القصة في إطار النقاش والإختلاف الإيجابيين اجتماعياً.
ثانياً: من حيث المحتوى:
1- عند تقديم قضايا خلافية ثقافياً، مثل المعاني والإشارات الجنسية، لم تراع الفقرة المعنية منظومة القيم الثقافية التي تتصل بذلك، وبافتراض وجود نوايا نقدية إيجابية، فإن البرنامج أخطأ الهدف، و لم تبث القناة ما يدعم موقفها الذي قدمته في بيانها التوضيحي.
2- إن قول القناة بأنها تهدف إلى نقد ممارسة إعلامية تبث في محطات أخرى، لا يجد ما يبرره؛ فليست هناك قصص تحمل مثل هذا المحتوى الجنسي منشورة، أو تقدمها محطات تلفزيونية، وقد نقلت هذه الفقرة حرفياً عن فقرة مماثلة في برنامج أجنبي، وهو أمر كان ينبغي أن يكون محل عناية وتدقيق.
3- لم تراع القناة خصائص جمهورها، ليس فقط الثقافية، بل والعمرية. فمن المعروف أن جمهور هذه الكوميديا التلفزيونية الآخذة في الانتشار على الشاشات العربية ومثالها قناة "رؤيا" هم الشباب الصغار أو المراهقين (12- 16) سنة، الذين يجذبهم بشكل كبير هذا النمط من الكوميديا، وهم الأكثر حساسية لمثل هذا النوع من المحتوى الإعلامي المرئي.
ما العمل؟
ان قضية بث المحتوى غير الملائم تثير مجموعة من المسائل المهنية والأخلاقية التي تحتاج الى تدابير واجراءات عملية من منظور الممارسة المهنية والاخلاقية. لذا، فان مرصد "أكيد" يدعو الى ما يلي :
أ. إجراء تحقيق داخلي في الأسباب التي أدت الى وقوع هذا الخطأ وإعلام الجمهور بنتائج هذا التحقيق.
ب. إن تكرار مثل هذه الأخطاء يعني أن هناك اختلالات في إدارة المحتوى الإعلامي، وهو ما يتطلب من الوسيلة تطوير قدراتها في مجال إدارة المحتوى المقدم للجمهور.
ت. إن إدارة المحتوى الإعلامي، وفق ما أفضت إليه مثل هذه الاخطاء، تتطلب أن تمنح الوسيلة الإعلامية، القواعدَ المهنية وأصول العمل الإعلامي أولوية، بمعنى أن تكون الدقة أهم من السرعة، وأن لا تكون الجاذبية على حساب القيم المهنية.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني