دلال سلامة
يوم 6 آذار (مارس) 2014، نشرت الرأي والدستور والغد والسبيل أربعة أخبار تغطي اجتماعا وزاريا عرض إنجازات مشروع حوسبة القطاع الصحي في الأردن. حملت هذه الأخبار عناوين مختلفة، وكان ثلاثة منها بأسماء صحافيين مختلفين، في حين حمل الرابع اسم الصحيفة.
للوهلة الأولى، تبدو هذه تغطيات متعددة، أنجزها صحافيون عدّة، في وسائل إعلام مختلفة، لكن الدخول إلى متن الخبر يكشف مفاجأة، هي أن ما يبدو تغطيات صحافية متعددة لحدث واحد، ليس في الحقيقة إلا تغطية واحدة، منقولة بالنص عن وكالة الأنباء الأردنية "بترا"، نشرتها الصحف الأربع بعد إجراء تغييرات طفيفة في العنوان، وتغييرات طفيفة في ترتيب الفقرات، في بعض هذه الوسائل، من دون إشارة إلى الوكالة. أما المفاجأة الثانية، فهي أن خبر "بترا" نفسه، منقول بالنص عن بيان صحافي صادر عن قسم العلاقات العامة في وزارة الصحة، ومنشور على موقعها.
خطأ التعامل مع الخبر السابق، لا يقف عند عدم نسبته إلى مصدره الأصلي، بل يمتد ليشمل المساحة التي تحتلها تغطيات "جاهزة" كهذه في الصحافة الأردنية، والمقصود بـ"جاهزة" هي المواد الصحافية التي تُنجز خارج الصحيفة، ومن دون أي مشاركة من صحافييها، لا في جمع المعلومات، ولا حتى في صياغة وعرض هذه المعلومات، ثم تُنشر هذه المواد بالنص نفسه في أكثر من صحيفة. وهي مواد كشف رصد علمي للمحتوى الإخباري المحلي في الصحف الأربع السابقة الذكر، أجري في سياق الإعداد لهذا التقرير، أنها تشكّل ما نسبته 62.5% من مجمل محتوى هذه الوسائل.
70.5% من هذه الأخبار الجاهزة مصدره "بترا"، و27.2%، هي أخبار، أرسلتها أقسام العلاقات العامة والإعلام في الوزارات والمؤسسات العامة والخاصة، إلى الصحف، في حين أن 2% منها أخبار، نقلها صحافيون عن بعضهم، ونسبوها لأنفسهم.
بالتأكيد، فإن نشر وسائل الإعلام لأخبار الوكالات هو أمر متعارف عليه عالميا، إذ لا تستطيع حتى كبريات الصحف في العالم أن تمد لها أذرعا في كل رقعة في الكوكب لتنقل لقرائها الأخبار، لكن تعامل وسائل الإعلام المحترفة مع أخبار الوكالات، يكون بوصفها "مكملا" لعمل الوسيلة، لا قاعدة أساسية له، وغالبا ما تنشر هذه الوسائل الأخبار التي تحدث في أماكن خارج نطاق عملها.
لكن المفارقة التي كشفها هذا الرصد، هي أن النسبة السابقة تخص أخبارا محلية، تتعلق بأحداث وقع الكثير منها في العاصمة عمان، ربما على بعد أمتار عن مقار هذه الصحف.
في السياق نفسه، فإنه من الطبيعي أيضا، أن تنشر الصحف أخبار البيانات الصحافية الصادرة عن الجهات المختلفة، وهي بيانات تعرض فيها هذه الجهات نشاطاتها، أو توضح مواقفها، لكن العادة تجري أن تنشر الصحف تغطيات متعددة للبيان الواحد، تستخدم فيها لغة مختلفة، وترتيبا مختلفا للأفكار، وتتضمن تركيزا متفاوتا على الزوايا المتعددة لبيان، بما يعكس القراءة الخاصة لكل صحافي، أو وسيلة إعلام، التي تعكس بدورها السياسات التحريرية لهذه الوسيلة أو تلك.
ما كشفه الرصد، هو أن الصحف، لا تفعل ذلك، بل هي تنشر البيان أو الخبر الذي أرسلته المؤسسة كما هو، وهذا يكون واضحا، من تطابق النصوص المنشورة في عدةّ صحف في وقت واحد. كما أنها تنشرها غالبا، كما سيُوَضّح لاحقا، دون إشارة إلى أن المعلومات التي يتضمنها الخبر، هي في الأصل بيان صحافي صادر عن "العلاقات العامة" في المؤسسة المعنية. وخطورة ذلك تكمن في أن الأغلبية الساحقة من هذه البيانات مصاغة على شكل أخبار صحفية تغطي نشاطات المؤسسات التي صدرت عنها، وفي ظل ضعف متابعة الصحف للقضايا على أنواعها، فإن هذه "البيانات" تصبح، في الغالب، هي مصدر المعلومات الوحيد المتوفر للجمهور.
المنهجية واختيار العينة:
ذُكر سابقا أن "الخبر الجاهز" هو المادة الإخبارية التي أٌنجزت خارج الصحيفة، ومن دون أي مشاركة من قبل صحافيي الوسيلة في جمع المعلومات، أو في صياغتها وعرضها، وقد حُكم على أي خبر بأنه ليس من إنتاج الصحيفة، عندما يكون قد نُشر بالنص ذاته، في اليوم ذاته، في صحيفتين أو أكثر، أو يكون قد نُشر قبل يوم من نشره في أي صحيفة، على موقع "بترا".
والحكم على خبر ما بأنه "جاهز"، تمّ وفق معيار مشدد، هو التطابق في النص ، ومن هنا، استُبعدت الأخبار التي كان يُشكّ أنها منتحلة، إذا كانت غير متطابقة لغة، ومنها الكثير من أخبار الحوادث، التي تنشرها الصحف منسوبة، في الغالب، لمندوبي المحافظات، ولم تكن تتضمن إلا المعلومات الواردة في بيان "الأمن العام"، أو مديرية الدفاع المدني، وأحيانا بترتيب المعلومات نفسه، لكن، لأن هذه المعلومات تكون مصاغة بكلمات أخرى، فقد عوملت بوصفها أخبارا أصيلة. وانطبق الأمر ذاته على أخبار دخول وخروج اللاجئين السوريين إلى المملكة، وأخبار إتلافات المواد الغذائية الفاسدة، وما يشبهها من أخبار نشرها صحافيون بأسمائهم. لقد فُسّر الشك دائما لصالح الصحافي، وافتُرِض أنه قد سعى فعلا للحصول على خبر، وكانت هذه هي كل المعلومات التي تمكن من الحصول عليها.
شمل الرصد أربع صحف مطبوعة، هي "الرأي" و"الدستور" و"الغد" و"السبيل"، واستثنيت "العرب اليوم" بسبب حالة عدم الاستقرار التي عانت منها خلال العام 2013، وتوقف صدورها في الفترة ما بين (17/7/2013- 8/12/2013)، على خلفية أزمة مالية.
واقتصر الرصد على المحتوى الإخباري المتعلق بالأردن، من أخبار وتقارير وقصص إخبارية، واستثنيت أخبار الرياضة، فقط بهدف تقليل زمن الرصد. كما استثنيت زوايا "المرصد" في الصحف، التي تتضمن إعلانات عن فعاليات قادمة. واستثنيت زوايا "عين الرأي" في "الرأي"، و"صنارة الدستور" في "الدستور"، و"زواريب" في "الغد، و"خفايا" في "السبيل"، وهي زوايا يومية، ينشر كلّ منها مجموعة من الأخبار القصيرة (30 كلمة في المتوسط)، وهي خليط من "التسريبات"، والتعليقات على الأحداث، والإعلان عن فعاليات.
حدّدت الفترة الزمنية للرصد وفق عينة "الأسبوع الصناعي"، فحُدّدت سبعة أشهر، من تشرين الأول (أكتوبر) 2013، إلى نيسان (أبريل) 2014، واختير من الشهر الأول، السبت الأول فيه، ومن الشهر الثاني الأحد الأول، ومن الشهر الثالث الاثنين الأول، وهكذا حتى الجمعة الأولى من الشهر الأخير. وقد بلغ مجمل عدد الأخبار المحلية التي نشرتها هذه الصحف، خلال هذه الفترة 1689 خبرا.
من أين تأتي الأخبار؟
ما فعله هذا التقرير بشكل أساسي، هو أنه تتبع التغطيات الجاهزة في الصحف المرصودة، وحاول أن يعرف مصادرها، ذلك أن السؤال عن مصادر الأخبار هو أحد أعمدة التحقق من مصداقيتها، فهوية المصادر داخل الخبر هي ما يجعل الجمهور يعرف إن كان لها مصلحة شخصية في الترويج لما يتضمنه الخبر من معلومات، وعلى ضوء هذه المصلحة، تُحاكم الرواية التي يطرحها الخبر.
لكن أهمية المصادر لا تقف عند تلك التي يتضمنها الخبر، بل تمتد لتشمل الصحافي، ووسيلة الإعلام التي يعمل فيها، فالخبر يُقرأ مع اسم كاتبه، واسم وسيلة الإعلام التي نُشر فيها، وأحد أكثر العوامل تأثيرا في تحديد استقبال الجمهور لخبر ما، واستعداده لتصديقه أو تكذيبه، هو حجم رصيد المصداقية، الذي يكون الصحافي ووسيلة الإعلام قد أسساه لنفسيهما، على امتداد تاريخهما المهني، في ذاكرة المتلقين.
من هنا، فإن التدقيق في مصادر أخبار الصحف في هذا الرصد، ومحاولة تتبعها بدقة، وقع في صلب محاولة الإجابة على سؤال هام: هل تنهض هذه الصحف بمهمتها الإعلامية، بوصفها قناة حرة لتدفق المعلومات، وأداة رقابية مستقلة، تنقل لجمهورها ما يحدث حوله فعلا؟
مبدئيا، لم تقم الصحف بوظيفتها إزاء مشروع ضخم مثل حوسبة القطاع الصحي في الأردن، الذي بدأ به هذا التقرير، فقد غطّته الصحف الأربع بمادة صحافية وصلت إليها "جاهزة"، ولم تكن هذه حالة اسثنائية، فقد كشف الرصد، كما تقدّم، أنه من بين 1689 خبرا، هي مجمل المحتوى الإخباري في الفترة المحددة، كان هناك 1057 تغطية جاهزة، شكّلت 62.5% من المحتوى الإخباري المحلي في الصحف الأربع.
وقد تطابقت كلّ من "الرأي" والدستور" تقريبا في حجم الأخبار الجاهزة، فشكّلت في "الرأي" 67.8% من مجمل محتواها الكلّي، وفي "الدستور" 67.3%. في حين كانت نسبتها في "الغد" 58.2%. وحققت "السبيل" أقل نسبة هي 48.2%. لكن تجب الإشارة هنا إلى أن المحتوى الإخباري لـ"السبيل" أقل بكثير من بقية الصحف، وهي لم تسهم بأكثر من 11.3% من أخبار العينة. ويمكن، إضافة إلى ذلك، الأخذ في الاعتبار سياستها التحريرية بوصفها أقرب إلى صحيفة معارضة، وبالتالي فإن تعاطيها مع البيانات الرسمية، والأخبار الجاهزة القادمة من أقسام العلاقات العامة، سيكون أقل بكثير من غيرها.
الجدول الآتي يوضح الحجم الكلي لأخبار كل صحيفة، ونسبة الأخبار الجاهزة منها:
جدول رقم (1)
الصحيفة | الحجم الكلي | حجم الجاهز | نسبة الجاهز من الكلي |
الرأي | 467 | 317 | 67.8% |
الدستور | 508 | 342 | 67.3% |
الغد | 522 | 304 | 58.2% |
السبيل | 192 | 94 | 48.9% |
المجموع | 1689 | 1057 | 62.5% |
غطّت الأخبار الجاهزة طيفا واسعا من الأحداث، شمل إنجازات الوزارات، وإجراءاتها الرقابية، ومباحثات المسؤولين الأردنيين مع بعضهم، ومع مسؤولين من الخارج، ومع فعاليات اقتصادية، ومع مجتمع مدني، ونشاطات النواب، ونشاطات الأعيان، والهيئات الحكومية، وتوقيع الاتفاقيات الداخلية، والخارجية، والخطط الحكومية، والتشريعات، ونشاطات منظمات المجتمع المدني الأردنية، والهيئات الدولية، والجامعات الحكومية، والجامعات الخاصة، ونشاطات أمانة عمان، والمؤسسات الخاصة، والجرائم، والمؤتمرات، والمبادرات الإصلاحية، وحلقات نقاش القضايا الوطنية، والندوات العلمية، والأدبية، وغيرها.
فإذا كانت أغلبية تغطية القضايا المفصلية في المشهد الأردني، في فترة الرصد، تمّت بأخبار "جاهزة"، فإن سؤالين بالغي الأهمية يُطرحان هنا:
من أين أتت هذه الأخبار؟ ومن كتبها؟
تنشر الصحف الأربع الأخبار وفق نهج واحد، فهي تنشرها مسبوقة باسم صحافي، أو باسم الصحيفة نفسها، أو تُنسب إلى "بترا"، أو تسبق بـ"عمان"، دون الصحيفة أو الصحافي، وفي حالات قليلة، تُنشر أخبار دون أن تُنسب إلى أي جهة، أو أحد.
أول ما كشفه الرصد هو أن من يُنسب إليه الخبر، لا يكون بالضرورة صاحبه، فهناك أخبار منسوبة لصحافيين، هي في الحقيقة تقارير لـ"بترا"، أو بيانات صحافية أرسلتها إلى الصحف أقسام العلاقات العامة والإعلام في الوزارات والمؤسسات العامة والخاصة. ومن المشاهد اليومية المألوفة تماما في الصحافة الأردنية أن تجد نص تقرير منشور في عدة صحف، في اليوم ذاته، ومنسوبا في كل مرة لاسم صحافي مختلف.
ووفق نتائج هذا الرصد، انتحل الصحافيون ما نسبته 19.6% من الأخبار الجاهزة. إضافة إلى 2%، أُشير سابقا إلى أن الصحافيين انتحلوها عن بعضهم.
ورغم تفاوت الصحف في نسبة المواد "المُنتحلة"، إلا أن أنها اتبعت نهجا موحدا مع هذه المواد، إذ كان النص في هذه الحالة يتعرض لتغييرات، ولكنها طفيفة، تقتصر على ترتيب الفقرات، أو تغيير كلمات من قبيل "أشاد" بـ"ثمّن"، و"شدد" بـ"أكّد"، و"نوّه" بـ"لفت"، وهكذا، أو يضيف الصحافي فقرة من 60 كلمة مثلا إلى نص من 600 كلمة، وينسبه لنفسه دون أي إشارة إلى المصدر، أو يدمج خبرين لـ"بترا"، أو بيانين صحافيين، دون أي تغيير أو إضافة. وواحدة من الطرائف أثناء هذا البحث، خبر انتحله الصحافي بالكامل، وكانت إضافته الوحيدة هي أنه حاول الاتصال بالوزارة المعنية ليتأكد من صدق المعلومات في الخبر، لكنه لم يتمكن من ذلك.
في الحقيقة، فإن ما نسبته 45.7% من هذه الأخبار فقط، نُسب إلى مصدره الأصلي (وهو بترا)، في حين نشر ما نسبته 28.9% من هذه الأخبار مسبوقا باسم الصحيفة، و19.8% باسماء صحافيين لم يكتبوها، و5.4% نُشر مسبوقا بـ"عمان" فقط، أو دون أي شيء.
الجدول الآتي يوضح الجهات الني نُسبت إليها الأخبار الجاهزة:
جدول رقم (2)
الحجم الكلي للأخبار | حجم الأخبار الجاهزة | الأخبار المنسوبة إلى الصحيفة | النسبة | الأخبار المنسوبة إلى صحافي | النسبة | أخبار نُشرت دون نسبتها إلى شيء | النسبة | أخبار منسوبة إلى عمان | النسبة |
1689 | 1057 | 306 | 28.9% | 210 | 19.8% | 26 | 2.4% | 32 | 3% |
بلغ عدد الأخبار القادمة من أقسام العلاقات العامة في جهات حكومية وخاصة، ونشرت كما هي 288 مادة، تشكل 27.2% من مجمل الأخبار الجاهزة. وقد تنوعت الجهات التي غطّت هذه الأخبار نشاطاتها، وكانت الحصة الأكبر من نصيب المؤسسات الحكومية من وزارات وهيئات مستقلة وغيرها، تلتها أخبار منظمات المجتمع المدني، ثم المؤسسات الربحية، وأخيرا أخبار هيئات دولية ومجلس النواب.
وفي ما يأتي شكل يوضح توزيع أخبار العلاقات العامة بحسب الجهة التي غطّت نشاطها:
الشكل رقم (1)
كما تقدّم، فإن الوضع الطبيعي هو أن تغطي وسائل الإعلام هذه البيانات كل بطريقتها. وأيّا كان شكل هذه التغطية، فإن الصحيفة ملزمة مهنيا بأن تخبر القارئ أن المعلومات التي يتضمنها الخبر مصدرها بيان صادر عن المؤسسة المعنية.
لقد سبق القول إن الأغلبية الساحقة مما ترسله أقسام العلاقات العامة في المؤسسات السابقة، هو في الحقيقة أخبار صحافية تغطي أنشطة هذه المؤسسات، وأن ضعف متابعة وسائل الإعلام للقضايا، يجعل من هذه البيانات هي مصدر المعلومات الوحيد المتاح للجمهور عن هذه الأنشطة.
لننظر على سبيل المثال إلى أخبار توقيع اتفاقيات مياه، وقرارات مجلس الوزراء، وتسليم وزارة التنمية مساكن لأسر فقيرة، وتقديم هيئة دولية حاويات قمامة لبلدية إربد، وانتخابات الجامعة الأردنية، وورشة عمل أقامتها الهيئة المستقلة للانتخاب، لتوعية الشباب بأهمية المشاركة في الحياة السياسية.
ما سبق، وغيره، كان أحداثا مفتوحة أمام الإعلام، لكن الصحف لم تنقلها لجمهورها كما يُتوقّع منها أن تفعل، أي أنها لم ترسل صحافييها ليجمعوا المعلومات، ويلتقوا أطراف الحدث، ويوازنوا جوانب الرواية، بل اختارت أن تنشر ما وردها من معلومات جاهزة.
إنها تغطيات لأحداث كتبها صانعو هذه الأحداث، ولا عجب أن نكتشف، عند تحليل مضمونها، أنها تحمل جميعها صوتا واحدا، ورواية واحدة، هي رواية القائمين على المؤسسة محور التغطية، وجميعها على الإطلاق تنطوي على ترويج لهذه المؤسسة. بل إن الصحف تذهب بعيدا في السماح بهذا الترويج المتّخذ شكل الخبر الصحافي، فتنشر بيانات أقسام العلاقات العامة في المؤسسات الربحية.
أثناء هذا كلّه، فإن الصحف، لا تخبر قراءها أبدا أن نص الخبر كتب خارج الصحيفة، هي قد تشير إلى أن المعلومات الواردة في الخبر يتضمنها بيان صادر عن الجهة المعنية، ولكنها أبدا لا تخبر القراء أن الخبر كله كتبته هذه الجهة بنفسها، وما تفعله الصحف هو أنها تنشر هذه المواد منسوبة إلى الصحيفة نفسها، أو باسم أحد صحافييها، أو تنشرها مسبوقة بـ"عمان"، أو تنشرها دون نسبتها إلى أي جهة.
في ما يلي شكل يوضح توزيع هذه الأخبار بحسب الجهة التي نٌسبت إليها عند نشرها:
شكل رقم (2)
إن حجب هوية كاتب الخبر، ونسبة هذا الخبر إلى الصحيفة أو أحد صحافييها، يعني أن الصحيفة تتبنى محتواه، وقارئ عادي، سوف يستقبل المعلومات الواردة في الخبر بوصفها نتاج تغطية صحافية مهنية ومستقلة لوسيلة الإعلام، في وقت تكون فيه المؤسسة نفسها، هي المصدر الوحيد للرواية التي يقدمها الخبر عن الحدث موضوع التغطية.
وما يعمّق خطر ما سبق، هو ما كشفه الرصد من أن 18.6% فقط من هذه الأخبار تضمنت إشارة إلى أن ما تقدّمه من معلومات منقول عن بيان صادر عن الجهة المعنية، في حين أغفلت 81.3% منها هذه الإشارة.
ومع ذلك، فإن ما يخفف من سوداوية الوضع السابق، هو أن 44.7% من المعلومات الواردة في هذه الأخبار، نُسبت إلى مصادر محددة، أي إلى أشخاص بعينهم، ورغم أن هذه المصادر كانت المسؤولين في هذه المؤسسات، ولكن الجمهور في هذه الحالة، كان على بينة من أن ما يطرحه الخبر من معلومات هو في النهاية "رواية" شخص، يمثل طرفا غير محايد.
في المقابل، غابت المصادر في 33.3% من هذه البيانات، وطُرحت المعلومات الواردة فيها بوصفها "حقائق" لا "روايات"، في حين "خلطت" الـ21.8% الباقية بين معلومات منسوبة إلى أشخاص محددين، وما طُرح في الخبر بوصفه حقائق، لم يُنسب إلى أحد معين.
في ما يلي شكل يوضح توزيع أخبار العلاقات العامة بحسب نسبتها إلى مصادر:
شكل رقم (3)
إذن، لدينا "أخبار"، لم تكن نتاج عمل أدوات رقابة مستقلة ومحايدة هي الصحف، بل نتاج "موظفين" في المؤسسات التي غطّت الأخبار نشاطاتها. وأمر كهذا يثير التساؤل، عن المصداقية، التي يمكن أن يُوسم بها خبر يغطي نشاطا ما، إذا كان كان من كتب الخبر عن هذا النشاط هم القائمون عليه ذاتهم، خصوصا، أن النشاطات تقدّم في هذه النوعية من الأخبار بوصفها "إنجازات".
كيف يتأكد الجمهور من أن حملة إزالة البسطات التي نفّذتها الأمانة، لاقت فعلا "انطباعا عاما يبعث على الراحة لكافة شرائح المجتمع"، إذا كان من تحدث باسم كافة شرائح المجتمع هو مسؤول الحملة في الأمانة. وكيف يتأكد الجمهور من الفرق الذي أحدثته إعادة تأهيل مركز صحي في الأغوار الجنوبية، إذا لم يكن في الخبر مواطنو المنطقة، شهود إعادة تأهيل مركزهم الصحي، ليقولوا كيف كان وكيف أصبح. وكيف يعرف الجمهور كيف سارت حملة توزيع المعونات على اللاجئين السوريين، التي نظمتها نقابة المهندسين، إذا لم يلتق صحافي بأحد من الذين ذهبت إليهم التبرعات، ليخبر عما تلقاه، وكيف تلقاه.
كيف يعرف القارئ أن ما نقلته الأخبار بوصفه إنجازات هي كذلك فعلا، إذا لم تكن نتاج تغطية صحافي مستقل ومهني، خرج من مقر صحيفته، وعاين الواقع بنفسه؟
لـ"بترا"، حصة الأسد في التغطيات الجاهزة التي تنشرها الصحف، إذ شكّلت، كما تقدّم، ما نسبته 70.5% منها. لكن تحديد "بترا" بوصفها مصدرا للخبر على وجه اليقين، ليس بالسهولة التي يبدو عليها، والمقصود هنا، إمكانية الجزم بأن الخبر المشترك بين بترا والصحف، هو نتاج تغطية صحافيي بترا، فقط لأنه نُشر على موقعها قبل نشره في الصحف.
لقد أُشير في مقدمة التقرير إلى خبر "حوسبة القطاع الصحي" الذي اتضح بعدها أنه بيان من "العلاقات العامة" في وزارة الصحة. وليس هذا الخبر استثناء، فهناك العديد من الأخبار التي تُنشر في "بترا"، ثم عندما تُنشر نفسها في الصحف اليوم التالي، يكتشف القارئ المدقق، أن خبر "بترا" كان جزءا من نص جاهز، اشتركت الصحف اليوم التالي في نشره كاملا.
لننظر على سبيل المثال إلى خبر يعرض لـ"رؤية" أمانة عمان الكبرى، وخططها المستقبلية، إذ سيتضح من مطابقة خبر "بترا" مع خبري "الغد" و"الدستور"، أن خبر "بترا" هو جزء من البيان الذي أرسلته الأمانة إلى وسائل الإعلام، ونشرته "الغد" و"الدستور" كاملا.
مثال آخر على ذلك، لخبر تغطية أمسية أدبية، ففي تغطيتي "الرأي" و"الغد" فقرة من 80 كلمة، في ختام النص، واضح أن "بترا" حذفتها من الخبر الأصلي، الذي وردها جاهزا، أما "الدستور"، فنشرت نص "بترا" مع بضع كلمات من الجزء الزائد الذي تضمنه خبرا "الرأي" و"الغد". والطريف هنا هو اشتراك الصحف الثلاث في خطأين إملائيين (ألى، أحرى)، من الواضح أن النص الأصلي اشتمل عليهما، وأفلتت منهما "بترا" بحذفها هذه الفقرة.
لقد تكرر ما سبق في العديد من الأخبار، لهذا طابقت كاتبة التقرير أخبار بترا مع مجموعة من البيانات الصحافية الصادرة عن المؤسسات التي تمكنت كاتبة التقرير من الوصول إلى بياناتها الخام، وهي، وزارة العمل، ووزارة التنمية والشؤون الاجتماعية، ووزارة الصحة، وأمانة عمان الكبرى، ومديرية الأمن العام. وقد كشفت النتيجة أنه من بين 29 خبرا صادر عن "بترا"، نُشر في الأيام التي شملتها عينة الرصد، ويخص الجهات السابقة، فإن هناك 27 خبرا منها مطابق لهذه البيانات، وأن الاختلافات الطفيفة بين أخبار "بترا" وهذه البيانات، كانت تقتصر على اختصار مواضع في البيان، أو تغيير في بعض الكلمات المتفرقة. في حين لم يتضمن أي خبر منها، على الإطلاق، أي معلومات، غير تلك الواردة في البيان.
بالتأكيد، فإنه دون الحصول على البيانات الخام لجميع الجهات التي نشرت "بترا" أخبارا عنها في خلال أيام الرصد، فإنه لا يمكن الجزم بشيء، ولكن النتيجة السابقة مؤشر يمكن أخذه بالكثير من الاعتبار.
يكشف هذا الرصد، في المحصلة النهائية، أن الصحف في قسم كبير من أخبارها، قد تخلّت عن دورها المهني، وسمحت لنفسها أن تكون منصات لنشر روايات أحادية الجانب للأحداث، لهذا فإن السؤال المهم هو: إذا سلّمت وسائل الإعلام مهمة رواية الأحداث إلى صانعي هذه الأحداث، فما الذي يبقى لها لتفعله؟
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني