ضمن ظاهرة استسهال إعداد الأخبار من خلال العمل المكتبي وعبر الاتصالات الهاتفية يغيب العمل الصحافي الميداني وهو الأساس في عمل المراسلين الصحافيين المحترفين، حيث تتكرر هذه الظاهرة في التغطيات اليومية التي تتطلب مهنيا وجود الصحافي في الميدان.
الخبر الذي نتناوله تالياً، ليس مقصوداً بذاته، ونحن نأخذه كمجرد مثال على مواد مشابهة تتكرر في الصحافة وباقي وسائل الإعلام؛ نقصد تلك المواد التي يكون الطرف الرئيسي فيها أوساطاً شعبية تواجه مشكلة ما تحتاج الى معالجة صحفية من الميدان، وأن لا يكتفي الصحافي بالتصريحات.
الخبر (المثال) يتعلق باعتصام نفذه سائقو حافلات النقل العام بين معان والعقبة احتجاجاً على نقل موقف الحافلات إلى موقع يرونه غير مناسب، ونشرته الصحف يوم الإثنين 21 أيلول (سبتمبر) الجاري.
من الناحية الشكلية يبدو الخبر متكاملاً إلى حد ما؛ فهو يجيب على الأسئلة التي تتطلبها المادة الخبرية. فهناك حدث هو الاعتصام الذي جرى في زمان ومكان محددين، وهناك فاعلون أدلوا بتصريحات حول حيثيات شكواهم، التي تتضمن أن الموقف الجديد بعيد ويقع في منطقة غير مأهولة وأنه غير مخدوم وقريب من مجاري السيول ومحولات الكهرباء، ما يشكل خطراً على السلامة العامة، إضافة إلى شكواهم من عدم شمول الإجراء لكافة الحافلات العاملة على الخطوط الأخرى.
بعد ذلك ينتقل معد المادة إلى الطرف الآخر المتمثل بمديرية النقل في منطقة العقبة الاقتصادية، ويستوضح من مديرها الذي يصرح بأن موقف الحافلات الجديد مجهز ومخدوم ومناسب ومحروس وبعيد عن المحولات الكهربائية ويشمل قرار الانتقال إليه كل الخطوط بلا استثناء. أي –باختصار- فإن المدير ينفي رواية الطرف الأول أي السائقين.
يتوقف الخبر هنا، ويترك القارئ في حيرة من حقيقة الحالة.
من المرجح أن كاتب المادة اعتقد أنه يكفي تقديم "وجهات نظر" الأطراف ذات العلاقة، من دون اي تحرك نحو الميدان وإجراء أي تحقق من المعلومات والادعاءات التي وردت في كلام الفريقين. فلم يتمكن القارئ من معرفة إن كان الموقف الجديد بعيد فعلاً عن المدينة، أو أنه مجاور لمجاري السيول ومحولات الكهرباء وغير مخدوم، وغير ذلك مما صرح به السائقون، أو أن العكس هو الصحيح كما صرح المسؤول الرسمي.
كانت زيارة قصيرة أو التقاط صورة من الموقع والتعرف على بعده عن المدينة وطبيعة الخدمات فيه ورؤية المشهد في الواقع، كفيلة بتمكين معد التقرير من تقديم المعلومات المطلوبة التي تشكل مجال خلاف، وليس المقصود أن يتبنى معد المادة الإجبارية إحدى وجهتي النظر، ولكن المقصود أن يقدم ما يراه ويعاينه، بحيث يتمكن القارئ من معرفة الحقيقة بأفضل درجة ممكنة.
الملاحظة الأخرى، أنه في مثل هذه القضايا، التي يكون أحد طرفيها ينتمي إلى الأوساط الشعبية، لا يكفي التصريح "المنطوق" للوصول إلى معرفة موقف هذا الطرف الذي يكون أساسياً في القصة (سائقو الحافلات في هذه الحالة)، بينما يكون الطرف الرسمي ممتلكاً لأدوات التصريح والنطق الإعلامي.
في الأوساط الشعبية، لا يكون صاحب القضية معنياً بإيصال وجهة نظره أو التعبير عن نفسه نطقاً، بقدر ما هو معني بإيصال قضيته أو قصته. ومن غير الإنصاف أن نساوي في الأدوات بينه وبين محترفي التصريحات.
في حالات كهذه، على الصحفي أن يتجاوز -وهو يعد مادته- حاسة السمع، وصولاً إلى أوسع استخدام لباقي حواسه: البصر واللمس والشم أحياناً كي يتمكن من إيصال المعلومة الصحيحة.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني