عندما تضع في خانة البحث المتقدم في "غوغل" عبارات وكلمات مثل: "بطالة" و"العمالة السورية" و"اللاجئون السوريون" و"سوق العمل"، وتحدد خيارات البحث بما نُشر في وسائل الإعلام الأردنية، خلال السنتين الأخيرتين، فإن قسما لافتا من العناوين التي ستخرج إلى الشاشة ستكون من قبيل: "العمالة السورية تحرم الأردنيين من فرص العمل"، و"العمالة السورية ترفع نسبة البطالة في الأردن"، و"العمالة السورية في الكرك تضع المحلية على الرف"، "العمالة السورية تستحوذ على فرص العمل في البادية"، وغيرها من عناوين مشابهة، لا تقدم وصفا موضوعيا لتأثير العمالة السورية اللاجئة على سوق العمل الأردني، قدر ما "تحرّض" على اللاجئين أنفسهم.
ليست العناوين وحدها التحريضية. في الحقيقة، فإن الكثير من التغطيات تخرج من التغطية الموضوعية إلى التحريض، عندما تختار أن تسطّح تأثير العمالة اللاجئة في سوق العمل الأردني، فتكتفي بالقول إن اللاجئين "غزوا" سوق العمل الأردني، و"حرموا" الأردنيين من فرصه الشحيحة، من دون أن تضع هذا في سياقه الإنساني والاقتصادي والقانوني، الأمر الذي حوّل هؤلاء اللاجئين في هذا النوع من التغطيات من "ضحايا" إلى "جلادين"، وجعلها أداة لتعزيز خطاب كراهية ضد اللاجئين.
اللاجئون سبب أساسي للبطالة
يركز هذا النوع من التغطيات على ما يقول إنه "سيطرة" العمالة اللاجئة على فرص العمل، ويعرض شكاوى الأردنيين من متعطلين عن العمل، فيجعل هذا الأمر يبدو كما لو أن اللاجئين هم المسؤولون الوحيدون عن بطالة الأردنيين. في حين أن السوق، وفق دراسة غطّتها وسائل الإعلام نفسها، يعاني أصلا من اختلالات سابقة على اللجوء السوري، أبرزها تدني الأجور، وضعف المشاركة الاقتصادية العام، وضعف مشاركة المرأة بشكل خاص، والأعداد الكبيرة من العمالة الوافدة غير القانونية، والتي تزيد، وفق تقديرات رسمية وغير رسمية عن 550 ألف عامل، يُضافون إلى العمالة الوافدة القانونية، والتي تُقدّر بـ275 ألف عامل. إضافة إلى ضعف مواءمة مخرجات النظام التعليمي مع احتياجات سوق العمل، وضعف المستوى المهني والفني لخريجي الجامعات والمعاهد المهنية. وهي اختلالات سببتها، وفق الدراسة نفسها؛ "السياسات الاقتصادية الانتقائية التي نفذتها الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الأخيرين، خاصة في ما يتعلق بتحرير التجارة الخارجية والأسعار، وتنفيذ سياسات ضريبية غير عادلة، إلى جانب سياسات الخصخصة العشوائية"[1]. وبذلك، فإن هذا النوع من التغطيات يتجاهل حقيقة أن العمالة السورية اللاجئة "عمّقت" اختلالات سوق العمل الأردني، لكنها لم تخلقها.
وفي السياق نفسه، يتجاهل هذا النوع من المواد الصحفية حقيقة أخرى، هي أن تأثير العمالة اللاجئة كان على العمالتين: المحلية والوافدة، وهي هنا (التغطيات) لا تقدّم وصفا موضوعيا لنصيب العمالة المحلية من الأثر السلبي، إذ تقترح الدراسة السابقة أن تأثير العمالة اللاجئة، في العديد من القطاعات، كان بشكل أكبر على العمالة الوافدة الأخرى.
ورغم أن وسائل الإعلام غطّت دراسة لاحقة[2]، كشفت ارتفاع نسبة البطالة في المحافظات الثلاث الأكثر استضافة للاجئين، وهي عمان وإربد والمفرق من 14.5% إلى 22.1%، بين العامين 2011 و2014. لكن هذه النسب لم تكن منسجمة مع الأحكام المطلقة التي يرسلها نوع التغطيات موضوع هذا التقرير، والتي كانت تنقل عن أبناء المجتمعات المحلية تصريحات تفيد بسيطرة شبه مطلقة للعاملين اللاجئين على سوق العمل، فتستخدم كلمات مثل "استحواذ" و"غزو" و"سيطرة" و"طغيان"، من دون أن يكون هذا مستندا إلى أي رصد علمي، أو حتى تقديرات موثّقة لحجم العمالة اللاجئة في المنطقة التي يغطّيها التقرير. بل تُنقل هذه الأحكام من دون نسبتها إلى أي مصدر، أو تُنسب إلى أفراد من العامة في المجتمعات المحلية، أو حتى إلى مصادر جماعية مبهمة، ويُبنى كامل هذه التغطيات على هذه الأحكام، وتُبرز في العناوين الرئيسية.
بل سنجد أن بعض وسائل الإعلام تميل إلى إبراز هذا النوع من الأحكام في العناوين، حتى لو لم تفرض ذلك طبيعة التغطية، مثلا عندما عُنونت مقابلة مع رئيس الوزراء، عبد الله النسور بـ"النسور: "استحدثنا وظائف تلقفتها الأيدي العاملة السورية". وهي مقابلة له مع صحيفة "الشرق" القطرية، تحدث فيها عن عدّة قضايا، ولم تتجاوز نسبة الحديث عن اللاجئين فيها 9% من مجمل المقابلة.
كما عُنونت إحدى التغطيات بـ"العمالة السورية تستحوذ بنسبة 91% على فرص العمل"، رغم أن النسبة التي جاءت في سياق عرض نتائج إحدى الدراسات، لم تتحدث في متن الخبر عن فرص العمل بالمطلق، بل عن فرص العمل "المطلوب توفيرها سنويا للعمالة الأردنية".
الانتهاكات العمالية بوصفها "ميزة تنافسية"
تركز بعض التغطيات على أن اللاجئين يقبلون بأجور أقل من الحدّ القانوني، وساعات عمل أطول، من دون أن يلتزم مشغّلوهم بأي نوع من التأمينات التي ينص عليها القانون. كما تكرر مقولة مفادها أن اللاجئين يمكنهم أن يتدبروا أمرهم بالأجور المتدنية التي يتلقونها، الأمر الذي ليس باستطاعة العامل المحلي أن يفعله.
المشكلة في ما سبق هي أن بعض التغطيات تعرض هذا ضمن خطاب لا يقدّم ظروف العمل غير اللائقة بوصفها انتهاكات عمالية وإنسانية يرتكبها أصحاب العمل، ويرضخ لها اللاجئون بسبب ظروفهم القاهرة، بل يعرضها بوصفها "ميزة تنافسية" يحوزها اللاجئون، وتتكلم عنها هذه التغطيات بالطريقة ذاتها التي تتكلم فيها، مثلا، عن مهارتهم في حرف معينة.
تخرج هذه التغطيات أصحاب الأعمال من دائرة الإدانة لاستغلالهم اللاجئين، فتعرض الاستغلال بوصفه القانون الطبيعي للسوق، القائم على العرض والطلب. بل يصوّر بعضها هذا الاستغلال بوصفه "شطارة"، كأن يُنقل عن مستثمر في قطاع الإسكان، تعليقه على إقبال المستثمرين على العمال السوريين الأكثر مهارة، وأقل كلفة بقوله إن "المستثمر الشاطر الذي يعرف استخدام العمالة الجيدة، وبتكلفة أقل لا يعكسها على سعر الشقة وإنما هو ربح له".
في حين تذهب تغطيات أخرى بعيدا، فتجمّل موقف صاحب العمل، بأن تضفي عليه بعدا إنسانيا، كأن يُنقل عن صاحب عمل أنه يفضل تشغيل العاملات السوريات، لأنهن يمتلكن الخبرة، إضافة إلى "تدني أجورهن واستعدادهن للعمل لفترات طويلة خلال النهار"، ثم تنقل عنه أن "العامل الإنساني وظروف حياتهن الصعبة دفع بالكثير من أصحاب العمل إلى تشغيلهن، وتأمين سبل العيش الكريم".
وما يعمّق تحويل الانتباه الذي تمارسه بعض التغطيات عن الاستغلال بوصفه استغلالا، هو التذكير بأن العمال اللاجئين يتلقون "رواتب ومعونات" من المنظمات الدولية، وهو ربط يوحي بأنهم يتلقون كفايتهم من المساعدات، فيبدو بعدها أن أجورهم من العمل هي دخل إضافي يحققونه. وفي الأثناء، لا تُذكر قيمة هذه "المعونات" البالغة 14 دولارا (10 دنانير تقريبا) للفرد داخل مخيمات اللاجئين، و28 دولارا لمن هم داخل المخيمات.
إخراج الحقائق من سياقها محفّز للكراهية
كان للعمالة السورية اللاجئة في الأردن ضحايا من أبناء المجتمع المحلي، من الذين فقدوا أعمالهم، أو تدّنى مستوى الظروف التي يعملون فيها، في مواجهة عمالة تنافس بالتنازلات الجوهرية التي تقدمها في ما يتعلق بشروط العمل اللائقة. لكن كان لافتا أن بعض التغطيات في محاولتها إبراز هذه الحقيقة، انتهجت زاوية معالجة سطحية، وأحادية الجانب، وانتزعت هذه الحقيقة، كما تقدّم، من سياقها، فكانت نتيجة ذلك تغييب حقيقة أخرى وهي أن هؤلاء العمال اللاجئين هم أيضا ضحايا؛ ضحايا تهجيرهم القسري من الحرب الدموية في بلادهم، وضحايا سياسات أدّت إلى شحّ الدعم المقدم إليهم في أماكن لجوئهم، وضحايا استغلال أصحاب الأعمال لعوزهم.
يعرض هذا النوع من التغطيات اللاجئين خارج السياق الإنساني لمأساتهم، ويغيّب مقاساتهم لتأمين معيشتهم، في مثال نموذجي للكيفية التي يؤدي بها انتزاع الحقائق من سياقها إلى إثارة الكراهية بين مكونات المجتمع، ففي هذه القضية، لوحظ كيف تعمل بعض التغطيات على وضع الضحيتين (اللاجئين وأبناء المجتمع المحلّي) في صدام مع بعضهما، في حين يُحيّد صانعو السياسات ومنفّذوها.
[1] "تأثيرات العمالة السورية على سوق العمل الأردني"، مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية، كانون الأول (ديسمبر) 2014، ص 3.
[2] "آثار تدفق اللاجئين السوريين إلى سوق العمل الأردني"، سفين ايريك ستافي وسولفي هيليسون، منظمة العمل الدولية، 2015.
أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك كل جديد
أحد مشاريع معهد الإعلام الأردني أسس بدعم من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهو أداة من أدوات مساءلة وسائل الإعلام, يعمل ضمن منهجية علمية في متابعة مصداقية ما ينشر على وسائل الإعلام الأردنية وفق معايير معلنة.
ادخل بريدك الإلكتروني لتصلك أخبارنا أولًا بأول
© 2024 جميع الحقوق محفوظة موقع أكيد الإلكتروني